لا يتجاوز النص الأصلي لوعد بلفور الـ150 كلمة، حيث لو كان في زمننا هذا لكان عبارة عن ثلاث تغريدات على منصة «اكس»، إلا أنه، ورغم قصره، فإنه يحمل في طيّاته أسساً واعتبارات رئيسية تمثّل جوهر السياسة الغربية تجاه العرب والقضية الفلسطينية، وهي بطبيعة الحال سياسة مستمرة لأكثر من مئة عام، ولا تزال تُتبع غربياً وتُطبق عربياً.كتب بلفور أنه يجب أن يكون مفهوماً بشكل واضح أن تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين «لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين»، مضيفاً: «ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى». تختصر هاتان الجملتان كلَّ المسألة؛ بداية أنه لا وجود للعرب أو الفلسطينيين، بل إنّ هنالك «طوائف»، بينما الأهم هو التالي: للطوائف غير اليهودية حقوق مدنية ودينية، ولليهود وضع وحقوق سياسية. وعليه، لا يحق للطوائف غير اليهودية أي نوع من الحقوق السياسية، فالحكم السياسي للشعب اليهودي، والعرب، مسيحيين ومسلمين وغيرهم من الانتماءات، منزوعو الحق والسيادة السياسية، وما لهم هو حرية الممارسة الدينية وحزمة من الحقوق المدنية، وكل هذا على المستوى النظري.
(شادي الزقزوق)()

طوال المئة عام الماضية، كانت السياسة الإعلامية للغربيين تنطلق من هذا الأساس؛ فلا حرج في تسليط الضوء على «أزمة» الحقوق الدينية والمدنية للفلسطينيين، بل إنّ كل القضية هي المناورة والتنطّع بهذه الحقوق. وما إن تتحدّث أو تمارس حقاً سياسياً (والحق السياسي، بالضرورة، مصون بالمقدرة على ممارسة العنف) فالمسألة غربياً هي ممارسة للإرهاب. السلطة السياسية الإمبريالية تعيش حالة من الخوف والرهبة. من هنا، تكون كل عملية مقاومة وممارسة عنف ضد المستوطنين اليهود الصهاينة هي ممارسة للحق السياسي، هي نقيض لأسس بلفور، نقيض لسلطة الحكم البيضاء على فلسطين والعالم بأسره.
إنّ ما يميّز فلسطين والمقاومة العربية بشكل عام، ليست قوة السردية والقصة التي تمثّل ما نطلق عليه «القضية الفلسطينية»، فلو افترضنا ذلك فهذا يعني أن قوة خطاب القضية الفلسطينية هو ذاته عشية أوسلو ونهار السابع من أكتوبر المجيد، وهذا غير صحيح. إنّ قوة خطاب القضية مستمد، حصراً، من ممارسة الفلسطينيين للعنف والمقاومة. ولذلك، كلما زاد انتصار المقاومة العسكري زادت قوة خطاب القضية. وهذا ما نراه جلياً في الإعلام العربي «المستقل»، أي المُموّل غربياً (وكل من يدور في فلك الغرب من مثقفين وكتّاب)، حيث بالإمكان لأي مراقب لهذا الإعلام رؤية أنه يعيش أزمة وفزّاعة اسمها فلسطين، ويحاول بضراوة التوفيق بين تغطية القضية والسردية الغربية العامة ومصالحها في الوطن العربي. وتراهم يحاولون، بحرص، عدم الوقوع في شرك الاتهام بالمعايير المزدوجة ويجرّون غصباً إلى مجاراة تغطية الوضع الفلسطيني، والخضوع لحزمة مصطلحات القضية.
منذ بدء «طوفان الأقصى»، تعيش السردية الغربية أزمة كبيرة، بل هي الأزمة الكبرى منذ قدوم الجيوش الغربية إلى منطقتنا منذ أكثر من قرنين. وفي حرب المعلومات والصورة، استطاعت المقاومة الفلسطينية، ومئات من الغزيين، غربلة المشهد، وكنس جهد ملايين الدولارات المستثمرة في آخر عشر سنوات على أقل تقدير.
بالإمكان لأي مراقب لهذا الإعلام رؤية أنه يعيش أزمة وفزّاعة اسمها فلسطين، ويحاول بضراوة التوفيق بين تغطية القضية والسردية الغربية العامة ومصالحها في الوطن العربي


حتّمت هذه الأزمة استنفار كل استثمار أوروبي وأميركي إعلامي، ولكن كيف؟ إنّ مراقبة أدوات صناعة الخطاب العربي غربياً، من منصات إلكترونية، تكشف لنا أن الاستراتيجية المتبعة هي تطبيق بلفوري. بمعنى، أن تركيز الخطاب سيكون منزوعاً من، ومضاداً لأي ممارسة سياسية ضد الصهيونية، والتنكّر خلف الحقوق المدنية وخسارتها من جراء «الصراع». وهو ما نراه بشكل مكثّف في خطاب الحق في الحياة في غزة، وسردية الدفاع عن الحقوق المدنية الفردية، أو السياسية في حالة كان الخطاب مطابقاً للخطاب السياسي الغربي.
يقول أحد النصوص على موقع «رصيف 22» إن «قيمة الحياة أن تعاش كاملة»، وإن ثقافة المقاومة والجهاد والاستشهاد نقيض لـ«الحرية الفردية» و«حرية التعبير» و«فك القيود عن المجال العام»، وما المقاومة سوى «تسخيف للحياة». بتعبير آخر، هي عملية وضع التمتع الفردي لحقوق مدنية في مقابل الحق الجمعي العام في السيادة السياسية للشعب ككل، رغم وجوب عدم التناقض بينها.
المثال الأبرز كان، للمفارقة، بعيداً عن غزة، حيث إن عمليات القوات المسلحة اليمنية والسياسة والممارسة الإعلامية الذكية والشاملة لليمنيين، وضعت الأميركيين في تحدّي «رواية الحوثيين». وهي عملية ترى شواهدها المباشرة، وغير مباشرة، في منصات كـ«رصيف 22» و«درج»، حيث شهدت هذه المنصات في الأشهر الماضية تكثيفاً للتنكّر خلف الحقوق المدنية في مقابل الفعل السياسي اليمني. فعبر تقرير مصوّر على «رصيف 22»، أمست عمليات البحر الأحمر ضد الصهيونية تضع صيادي الساحل اليمني في المناطق «المحررة» بين سندانة «الحوثيين» وصواريخ البوارج، دونما إشارة إلى بوارج من؟ ولماذا؟ رغم تصريح أحد الصيادين أن البوارج تستهدفهم. أي إن القصة، بلسان الأميركيين عبر منصات عربية، أنه ممنوع عليكم كعرب ممارسة الحق السياسي، وأن ثمن هذه الممارسة باهظ جداً يصيب كامل حقوقكم في الغذاء والحياة.
المسألة هنا، هي ليست سياسات إعلامية مختلفة بين المنصات العربية، بل إن الشقاق هو بين من يريد هدّ أصل بنية العنصرية الغربية، واسترداد كامل حقوقه السياسية والمدنية والدينية، عبر فرض السيادة على الأرض والسماء والماء، والتي بفقدانها لا يمكن التطلع إلى أي بنية قانونية واجتماعية تحصل وتصون الحق المدني والديني لأنفسنا. فيمكنكم العيش وفق قواعد بلفور، والصهاينة والغربيين أوصياء عليكم كالحيوانات الأليفة، تحت إطار أن الاستعمار يؤمّن لك حق الممارسة الدينية كما يعدكم نتنياهو، والحقوق الفردية كما يصوّرها لك الاتحاد الأوروبي والأميركيون، وسيحميك المجتمع الدولي كما حمى الفلسطينيين.
أمّا نحن، فلن يرانا بلفور إلا حيث يكره.
* كاتب عربي