«... لم يكن لأيّ قدر من القراءة، أو حضور المؤتمرات، أو مشاهدة الوثائقيات أو الاستماع ليهيّئني (لفهم) حقيقة الوضع هنا (في رفح)، لا يمكنكم تخيّل ذلك حتى ترَوه رأي العين»الناشطة الأميركية راشيل كوري (1979- 2003)

فيما تغوّلت الإمبراطورية الأميركية بانتظام منذ الاستقلال (1776)، وتجاوزت حواجز «القرن الأميركي» إلى التصدي لقيادة النظام العالمي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فإن أصواتاً منفردة تظهر من حين لآخر معبّرة عن رفض هذه التسلطية عوضاً عن كشفها بأدوات شتى تجلّت في أوضح تعبير عنها في كلمات الجندي الأميركي آرون بوشنيل قبيل انتحاره حرقاً، متهماً طبقته الحاكمة بتطبيع المعاناة والاستعمار والانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني الذي كانت آخر كلماته دعماً له بشعار «فلسطين حرة».

الإمبراطورية الأميركية: ثنائية الأفكار والسلاح
في معرض دفاعه عن فكرة «الإمبراطورية الأميركية»، رأى برادلي تاير (2007) أن الولايات المتحدة مثلت إمبراطورية فريدة من نوعها، إذ اختلفت جذرياً عن جميع سابقاتها بما فيها البريطانية، رغم اشتراكهما في الأيديولوجيا والنظام الاقتصادي؛ الأولى لم تهتم بالتوسع في السيطرة على الأراضي بغزوها وفرض حكم استعماري عليها، بل إنها اهتمت بدعم الرفاه السياسي والاقتصادي للحلفاء. وربط تحليله ذلك، غير التاريخي في واقع الأمر، بخطاب ونستون تشرشل الشهير في جامعة هارفارد (أيلول 1943) الذي قدم فيه تعليقاً مهماً حول مستقبل القوة الإمبريالية: «إن إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل»، الأمر الذي ينطبق تماماً على الحالة الأميركية التي «لا تطمع في أراضي أو موارد الغير»، بل في «الأفكار». ليخلص إلى أن الإمبراطورية الأميركية هي إمبراطورية أفكار، وأن أفكارها هي التي قادت - بدورها - إلى نشأتها في عام 1776 (عام إعلان «المستعمرات الأميركية» استقلالها عن بريطانيا) ووصفها بـ«روح 1776».
وظهر، بعد خطاب تشرشل بعقد كامل، مفهوم شهير عن «الإمبراطورية غير الرسمية» (Informal Empire) لوصف وراثة أميركا، المستعمَرة السابقة لبريطانيا، الأخيرة في العالم الذي تعمقت في جنباته خطوط اشتباك الحرب الباردة. وإن لم تكن الفكرة نفسها، حسب المؤرخ البريطاني أنتوني جيرالد هوبكنز (American Empire: A Global History, 2018, pp. 21-2.)، بالجديدة، إذ ترادفت مع مفهوم «الإمبراطورية الخفية»، وكذا مفهوم لينين عن أشباه المستعمرات الذي ضمنه تأريخه نظرية الإمبريالية الرأسمالية: «وهو ما يمكن تطبيقه على صعود القوة الأميركية بشكل غير مسبوق في الفترة 1941-1945، وتحوّل المستعمرة والأطراف السابقة (للإمبراطورية البريطانية) إلى التأثير في المركز على نحو يمثل افتئاتاً على سيادة الأخير الوطنية».
وبين صورة ذهنية روّجتها الإمبراطورية الأميركية (وآلاتها وعرّابوها) عن نفسها كاستثناء تاريخي في نزوع القوى العظمى في تاريخ العالم للهيمنة، وحقيقة عنفها ونزعتها الإمبريالية التقليدية التي كشفتها السنوات التالية، انبرت أصوات أميركية فردية لمناهضة منطق هذه الإمبراطورية وتشوّهاته، المتباينة في التجلّي، معبرة عن انتقادات لمجمله وسياساته داخل الولايات المتحدة وخارجها، كان آخرها وأشدّها احتجاجاً إقدام الجندي الأميركي آرون بوشنيل على حرق نفسه أمام مقر سفارة الكيان الصهيوني في واشنطن (26 شباط الفائت)، مهّد له بكلمة وجيزة وكاشفة لوحشية «الطبقة الحاكمة» للإمبراطورية الأميركية باعتبارها - ضمناً وحسب مدركات بوشنيل خلال خدمته - الفاعلة الرئيسة الحقيقية في الإبادة في قطاع غزة في فترة ما بعد 7 أكتوبر، والتي جاوزت شهرها الخامس على مسمع ومرأى من الضمير العالمي المتخاذل.

مكارثية الحرب الباردة
جسّد المخرج الشهير وودي آلين دوراً لا ينسى في فيلم The Front» (1976)» ونموذجاً مثالياً للمواطن الأميركي البسيط وغير المؤدلج في خمسينيات القرن الماضي، يعمل محاسباً ويرتضي توقيع نصوص تلفزيونية باسمه نيابة عن صديقه المؤلف الشيوعي الذي مُنع من الكتابة بمقتضي قرار من لجنة الأنشطة غير الأميركية بالكونغرس مقابل الحصول على نسبة من العائد المادي. وكشف الفيلم، القائم على تجربة شخصية لمخرجه مارتن ريت ومؤلفه وولتر بيرنشتاين، تفاصيل مذهلة عن كثافة الإجراءات القمعية الشمولية التي انتهجتها «اللجنة» لتعقّب أية ميول شيوعية (أو عمالية) لدى الكتّاب أو الفنانين أو المفكرين وغيرهم تسويغاً لمنعهم من العمل، فيما بدأت شخصية هوارد برنس، التي لعبها آلين، في تحصيل قدر تدريجي من الوعي والفهم العميق في مواجهة هيمنة نظام دولة شمولية تماماً خلافاً لفكرة ثنائية العالم الحر والعالم الاشتراكي/ الشيوعي.
وإن عبّر الفيلم عن عالم هوليوود كمثال للمكارثية، فإن الجماعة الأكاديمية الأميركية عانت، كبقية مكونات المجتمع الأميركي، من هذه السياسة الاستبدادية. ومن الحالات الفردية التي ناهضت الشمولية الأميركية بوعي كاف وواجهت صفعاتها المعروفة عالم الرياضيات هوراس شاندلر ديفز (توفي في أيلول 2022، وهو مولود لأب عصامي تدرج من العمل في صناعة الصلب إلى وضع عدد من المؤلفات الأكاديمية المهمة حول الاشتراكية مع Monthly Review بعد نيله درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا في العام 1934) عقب فصله من عمله بجامعة مشيغين في عام 1954 بسبب رفضه التعاون مع «اللجنة» (HUAC)، وعوقب بالسجن لمدة ستة أشهر، ثم أُدرج على لائحة سوداء أكاديمية ما اضطرّه إلى مغادرة الولايات المتحدة والعمل في كندا قرابة ستة عقود حتى وفاته فيها.
ويبدو أن الحدث المغيّر لتوجهات ديفز «ضد الإمبراطورية» كان ضرب القوات الأميركية لمدينتَي هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية عند نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك عقب انضمامه إلى الحزب الشيوعي الأميركي في عام 1943 ثم انسحابه منه وفق لوائح الحزب بسبب مشاركته في برنامج تدريبي لضباط البحرية الأميركية، وتحصل في ربيع عام 1945 على فرصة عمل في القوات البحرية، والتحق في العام التالي بقسم الرياضيات في Harvard Graduate School ونشره أولى قصصه بعنوان «الكابوس» في دورية Astounding Science Fiction التي أبرزت على غلافها صورة لتمثال الحرية محطماً جراء قنبلة ذرية. وإجمالاً، فقد عرفت عن ديفز مواقفه المناهضة للحرب، إذ عارض الحرب الأميركية في فييتنام، وأعلى صوته بمناهضة «الأبارتهايد الإسرائيلي» في فلسطين (في تبنٍّ مبكر للمفهوم أميركياً وغربياً) والدفاع عن حقوق شعب الأخيرة، وصولاً إلى انخراطه الشخصي في جهود مختلفة «ضد الحرب الروسية في أوكرانيا»، ولا سيما ضمن حملة ضغط لدعم جهود الإفراج عن طالب الرياضيات الروسي آزات ميفتاخوف المعتقل في بلده منذ شباط 2019.

اغتيال فريدريك هامبتون: الأمن في خدمة السياسة
لم تختلف سياسات أميركا في نهاية الستينيات كثيراً عن أجواء مكارثية الخمسينيات وتوظيف الحرب الباردة لتمرير كل سياسات التسلط والقمع لمصلحة الطبقة الحاكمة وخياراتها داخلياً كما في أطراف الإمبراطورية، سواء في فييتنام أو في دعم التوسع الصهيوني غير المسبوق في أراضي الدول العربية المجاورة لها. واستجابة لهذه التسلطية، نشط حزب «الفهود السود» في مقدمة المطالبة بحقوق الأفروأميركان السود بما في ذلك القضاء على الأبارتهايد الاجتماعي، ومن بين الأصوات التي نشطت في هذا المسار فريدريك هامبتون، وهو شاب أفروأميركي مرّ بتجربة قصيرة في النضال ضد العنصرية الأميركية انتهت بمقتله مطلع كانون الأول 1969 عن عمر 21 عاماً تقريباً، وهو عمر قريب من عمر آرون بوشنيل.
وكان هامبتون، الذي حظيت حادثة اغتياله بطرح مفصل في كتاب صدر في عام 2019 ثم بعمل سينمائي ذائع في عام 2021 بعنوان «يهوذا والمسيح الأسود»، عضواً نشطاً في «الفهود السود» منذ تكوينه في عام 1966 وكان وقتها في بداية دراسته الجامعية، ورافق مارتن لوثر كينغ في العديد من المسيرات في شيكاغو المطالبة بمعاملة مساوية لسكانها السود، وبتوصية من القيادي الراديكالي وقتها بوبي راش (عضو الكونغرس حالياً عن الحزب الديموقراطي) تم اختيار هامبتون في تشرين الثاني 1968 مسؤولاً عن فرع الحزب في شيكاغو؛ ليقود بعدها نضالاً حثيثاً ضد «العنصرية والرأسمالية ووحشية الشرطة»، وتحالف مع أميركيين لاتينيين وبيض في المدينة لدعم حقوق عادلة للجميع.
لكن تحركات «الفهود السود» في إلينوي بقيادة هامبتون أثارت حفيظة جهاز الشرطة الفيدرالية الذي تحرك بطرق تقليدية ناشراً عدداً من عملائه في صفوف الحزب للعمل على إسقاطه داخلياً بالتوازي مع عمليات ابتزاز وتهديد منهجية. ووصل هامبتون إلى قمة لائحة من اعتبرتهم الشرطة تهديداً أمنياً مع تقارير ترجح تقلّده القيادة الوطنية للحزب حال الزج بديفيد هيلارد (زعيم الحزب وقتها) في السجن. وكشفت تحقيقات لاحقة أن «العميل مدفوع الأجر» داخل الحزب لم يكن سوى وليام أونيل رئيس الأمن بالحزب. وسهلت معلومات أونيل التفصيلية عن رفيقه هامبتون عملية تصفية الشرطة للأخير في شقته، فيما وصفته الصحف المحلية وقتها بحادث جرى نتيجة لإطلاق نار متبادل «خلال محاولة رجال الشرطة اقتحام شقة هامبتون للبحث عن أسلحة غير شرعية»، مقابل الرواية التي أدلت بها خطيبته ومفادها سماعها حديثاً قصيراً بين هامبتون ورجال الشرطة، تلاه صوت طلقتَي رصاص أدّتا إلى مقتله مباشرة. وتلا الحادث بطبيعة الحال حملات أمنية منتظمة ضد قيادات «الفهود السود» حتى حلّ الحزب في عام 1974.

خاتمة
على رغم من أن التفاصيل التي قادت الجندي بوشنيل إلى عمله البطولي الاحتجاجي ضد سياسات الطبقة الحاكمة في بلاده لن تكشف بشكل كامل على المدى المنظور، فإن المدى الأقصى الذي وصله الاحتجاج ينبئ بتفاصيل مذهلة في إبادة الشعب الفلسطيني وإدارة هذه الإبادة دونما اعتبار لأيّة قيم إنسانية. ما يؤكد بناء الإمبراطورية الأميركية نفسها على متناقضات ليس أقلّها الحرص على تصدير خطاب الحريات والحقوق الغربية في الوقت الذي تنتهك فيه هذه القيم نفسها بآلة قتل وعقاب جماعي فتاكة اكتشف جانباً منها أحد أكبر مناصري القضية الفلسطينية في العقود الأخيرة: آرون بوشنيل.
* كاتب وباحث مصري