حدثان قبل أيام، ربما بين مئات قبلهما، جدَّدا ضرورة النظر والتدقيق في طبيعة العلاقة القائمة بين الولايات المتحدة (بكل إداراتها) والكيان الصهيوني، أو على الأقل، في الطور الراهن منها. الحدث الأول، إقرار مجلس النواب الأميركي، بتفاهم الحزبين المتنافسين بضراوة على كرسي الرئاسة، «الديموقراطي» و«الجمهوري»، حزمة مساعدات بقيمة 26,4 مليار دولار. وهو، تقريباً، ضعف ما كان قد طلبه الرئيس جو بايدن قبل مدة (حوالى 14 ملياراً). حصل ذلك رغم ما يطفو على السطح من مظاهر «خلاف» و«توتر» بين الرئيس الأميركي ورئيس الحكومة الإسرائيلية حول رفح و«ارتفاع الضحايا المدنيين». المساعدة الأميركية الهائلة ليست مفاجئة. المفاجئ توقيتها قبل الشروع المعلن، من قبل رئيس حكومة العدو، في غزو رفح، وبهذا السخاء المنقطع النظير.
الثاني، هو في ردّتي فعل إسرائيليتين أعقبتا، بعد ساعة فقط، إقرار المليارات الأميركية تلك. فقد هاجم نتنياهو الإدارة الأميركية، بسبب إعلان دعائي تضليلي، عن تحقيق أميركي باحتمال خرق كتائب عسكرية إسرائيلية المواثيق الدولية في الضفة الغربية المحتلة، قبل 7 أكتوبر (ماذا عن الإبادة المتواصلة في قطاع غزة قبل حوالى 7 أشهر!). هاج نتنياهو وماج. هدَّد بأنه سيتصدى لذلك «بكل قوته». ذكّر ذلك بالحملة الضارية التي قادها، بشكل وقح، ضد الاتفاق النووي مع إيران، متحدياً ومستفزاً الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. أمّا النائبة الليكودية المقربة منه طالي غوتليف، فقد شتمت الإدارة الأميركية واتهمتها بالعداء لـ«السامية» وتساءلت: من تحسب الولايات المتحدة نفسها؟
في السياق، ويوم الإثنين الماضي، صدرت «البراءة» الأممية لوكالة «الأونروا» من قبل اللجنة التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة، برئاسة وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا، للتحقيق في اتهام إسرائيلي لـ12 عضواً من موظفي الوكالة بالمشاركة في عملية 7 أكتوبر. فور صدور الاتهام الإسرائيلي، ومن دون تحقيق أو تدقيق، قررت واشنطن قطع مساهمتها في ميزانية الوكالة، وحذت حذوها، مباشرة، 14 دولة حليفة وتابعة، ما هدّد عمل الوكالة التي تقدّم خدمات لحوالى 6 ملايين فلسطيني في الشتات.
عبر عرض هذه الوقائع، وشبيهاتها كثيرة، تبدو حكومة إسرائيل في موقع قوي في علاقتها بالطرف الأميركي. جرت العادة في اعتبار الكيان الصهيوني أداة للقوى الغربية الكبرى التي رعت عملية إنشائه، وأسبغت على مشروعه الإرهابي الإحلالي الشرعية الدولية. ثم هي وفرت له دعماً مستداماً هائلاً في الحقول السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية. لكن الوقائع والممارسات المذكورة، وسواها، تستدعي، حكماً، التساؤل: هل إسرائيل هي مجرد أداة؟ وإذا كانت كذلك، فلماذا تمتلك، إذاً، كل هذه الحظوة الاستثنائية، لدرجة أن البعض صنفها على أنها الولاية الـ51 في الفيدرالية الأميركية، وحتى ليس فقط أي ولاية! كيف يمكن تقديم تفسير قريب من الحقيقة بهذا الشأن؟
الحركة الصهيونية قطب وجناح مؤثِّر في الرأسمالية الإمبريالية الأميركية. هي تهيمن على فروع كبيرة ومهمة، تقليدية وحديثة: في الحقول المالية والصناعية والإعلامية والتكنولوجية والفنية والاتصالات


بعد أن تولت «بريطانيا العظمى» مرحلة التأسيس عبر «الوعد» والدعم والتدريب وتسهيل الهجرة، برزت واشنطن قوة هائلة صاعدة، وبجانبها الاتحاد السوفياتي، على حساب الدول الاستعمارية القديمة التي تراجعت قوتها، خصوصاً، بعد الحرب العالمية الثانية. مع تزايد إرهاب العصابات الصهيونية وعدوانيتها في فلسطين، ظهر ارتباك إنكليزي للتوفيق ما بين تلبية طلب الحركة الصهيونية بإنشاء «الدولة اليهودية» في فلسطين، وبين محاولة حكومة لندن تمديد الانتداب البريطاني لخمس سنوات إضافية. في الأثناء، تعاظم نفوذ الجناح الأميركي في الحركة الصهيونية بوصفه الموقع الأكثر تأثيراً فيها. ترتب على ذلك انزياح صهيوني نحو واشنطن التي «تكفّلت» رعاية المشروع الصهيوني مذّاك: بالترويج للاستيطان عبر الرئيس ترومان، وبالاعتراف بالدولة المغتصبة، وبمنع قيام الدولة الفلسطينية حسب نص قرار التقسيم... إلى اليوم: حيث أسقطت واشنطن كل قرارات وقف إطلاق النار. كما أسقطت، قبل أيام، مشروع قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية (التي تاجرت بها مراراً في الأشهر الماضية بوصف «حل الدولتين» هو «الحل الوحيد للنزاع»).
بلغ النفوذ الأميركي ذروته عام 1956 حين استغلت واشنطن «العدوان الثلاثي» على مصر من أجل إمساكها بكامل اللجام الإسرائيلي، من جهة، وبمصير منطقة الشرق الأوسط التي باتت واشنطن صاحبة النفوذ الأكبر فيها، من جهة ثانية. منذ ذلك التاريخ نشأت علاقة بين الطرفين حظيت عبرها تل أبيب بدعم أميركي مطلق لجهة:
1-مدها بكل أسباب القوة والتفوق.
2-إمعان واشنطن في رفض قيام دولة فلسطينية (رغم احتكارها دور «الوسيط» في النزاع) حسب قرار التقسيم (حل الدولتين) الذي أصرت عليه العصابات الصهيونية أساساً لكسب مشروعية دولية، بالتوازي مع منع الطرف الفلسطيني من بناء دولة خاصة به، ولو على الجزء الأقل من وطنه.
3-تصنيف واشنطن لتل أبيب قاعدة سياسية وعسكرية وأمنية و«حضارية» محورية في المنطقة التي تزايدت أهميتها مع تعاظم اكتشافات ثروتها النفطية بشكل خاص، ومع انطلاق تيار تحرري واسع في عدد من بلدانها، ومع ازدياد التنافس الأميركي السوفياتي فيها.
4-فرض إدماج إسرائيل في المنطقة قوة إقليمية لحماية الأنظمة التابعة، ولمواجهة القوى التحررية التي تناضل من أجل تحقيق مصالح شعوبها في الاستقلال والحرية والتقدم.
5-في خدمة هذا الدور جندت الحركة الصهيونية كل إمكاناتها في الولايات المتحدة، من أجل نجاح هذه الأهداف. والحركة الصهيونية قطب وجناح مؤثِّر في الرأسمالية الإمبريالية الأميركية. هي تهيمن على فروع كبيرة ومهمة، تقليدية وحديثة: في الحقول المالية والصناعية والإعلامية والتكنولوجية والفنية والاتصالات... في السياق، جرى بذل جهود هائلة من أجل دخول، أو ممارسة حضور جوهري، في أكثر فروع النشاط أهمية: الأمن والعلاقات الخارجية ومراكز الأبحاث والجامعات الكبرى والاتصالات والبورصة... ما وفَّر للصهاينة، وبالتالي للكيان الصهيوني، قوة ومراكز ضغط كبرى باتت لاعباً أساسياً في تحديد السياسات الأميركية، خصوصاً في مركزي القرار الأساسيين: رئاسة الولايات المتحدة والكونغرس الأميركي.
في امتداد ذلك، باتت إسرائيل جزءاً عضوياً من الولايات المتحدة. وهو جزء يشغل موقعاً أساسياً في خطط هيمنتها الشرق أوسطية التي من أجلها صاغت مشاريع قديمة وجديدة، وغزت، وغامرت، وأقامت القواعد العسكرية، وفرضت التطبيع، ودعمت دائماً، بلا حدود، حروب الصهاينة واعتداءاتهم. إلا أنه، وفي كنف المخطط الأميركي الشرق أوسطي القائم، برز، خصوصاً في السنتين الأخيرتين، وعبر تحالف قاده نتنياهو واستعاد بواسطته رئاسة الحكومة، مشروع أُصولي صهيوني توراتي «متطرف» (حسب وصف الرئيس بايدن). وهو مشروع ميدانه الأساسي «إسرائيل الكبرى» التوراتية، وليس «الشرق الأوسط الواسع» الأميركي، أو حتى ذلك الذي نظّر له رئيس وزراء إسرائيل الراحل شمعون بيريز. من هنا خصوصاً، بدأت تتزايد التباينات الأميركية-الإسرائيلية، دون أن تفسد للودّ الأساسي قضية، كما يتبين من موقف واشنطن من حرب الإبادة في غزة.

* كاتب وسياسي لبناني