لطيف ذاك السجال الذي أثير في أعقاب انتهاء محادثات جنيف من دون التوصل إلى تفاهم حول النووي الإيراني. اللافت فيه حرص جميع الأطراف على تحديد المسؤول عن إفشال الحدث الذي كان يؤمل أن يكون تاريخياً. وكأن القاعدة في جولات كهذه كانت الاتفاق، وما حصل كان استثناءً.
سجال لم يأت من عدم. فهي المرة الأولى التي تتفق فيها نيات الطرفين، الإيراني والأميركي، على ضرورة الخروج بمصافحة وصورة وبيان مشترك، كل لغاية في نفس يعقوب. وحدها فرنسا، ومعها إسرائيل طبعاً، كانتا العائق أمام تحقيق تلك الغاية، ولكل منهما أسبابه.

المسار التفاوضي

يبدو واضحاً أن واشنطن دخلت محادثات جنيف وفي نيتها أمر واحد أحد: إدخال إيران في عملية تفاوضية على أسس واضحة، بأي ثمن. وضوح ليس ابن لحظته، بل كان ملحوظاً في المسار الذي اتخذه الحراك الأميركي في المنطقة خلال الأشهر الماضية، حتى في أوج المخاطرة بعدوان على سوريا. حراك مبني على حقيقة بات مسلماً بها: لم تعد منطقة الشرق الأوسط تحتل القدر نفسه من الأهمية بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية. والسبب يعود إلى أمرين: الاكتشافات التقنية في مجال استخراج النفط، التي جعلت الولايات المتحدة تتجه نحو الاكتفاء الذاتي، بل مرشحة لتصبح دولة مصدرة للذهب الأسود، وتصاعد مستوى التحدي للإمبراطورية الأميركية من الشرق الأقصى حيث ساحة الصراع المقبل.
لا يعني هذا طبعاً أن المنطقة لم تعد مهمة بالنسبة إلى أميركا، بل يعني أن مستوى أهميتها تدنى، فضلاً عن تغيّر أسبابها. في البدء كان النفط وإسرائيل بؤرة التركيز الأساس للعم سام، عندما كان نفط المنطقة محرك عجلة الاقتصاد الغربي عموماً والأميركي خصوصاً، وكانت إسرائيل الضامن لأمن هذا النفط ولحركة الملاحة في قناة السويس. اليوم، لا يزال أمن إسرائيل خطاً أحمر، ولكن ليس من منظور وظيفي، بل في إطار البعد الإيديولوجي الذي يجعل إسرائيل تحتل في وجدان اليمين المسيحي الأميركي المكانة نفسها التي تحتلها فلسطين في الوجدان الإسلامي. ولا يزال النفط أيضاً بؤرة اهتمام، ولكن ليس انطلاقاً من الحاجة إليه بقدر السعي للحؤول دون هيمنة شرق آسيوية مطلقة عليه تعزز دور التنين الاقتصادي ونفوذه السياسي في العالم.
النتيجة طبعاً إعادة تموضع أميركي يسمح للعم سام بانسحاب تكتيكي من الشرق الأوسط لمصلحة اهتمام أكثر بالشرق الأقصى. من لوازم خطوة كهذه إعادة ترتيب المنطقة وتوزيع النفوذ والمغانم فيها بنحو يحفظ للولايات المتحدة عنصري سياستها المستجدين، وذلك ضمن سلسلة من التسويات تنهي بؤر التوتر. وضع لا يمكن تركيبه ما بقيت إيران دولة «مارقة». إدخالها في المنظومة بات واجباً، وتظهير القبول بها (المسلم به منذ 2008) دولة نووية بات بديهياً. بل صار القبول بتوسع دائرة نفوذها وحتى هيمنتها على مضيق هرمز وباب المندب والخليج كله، أمراً ثانوياً في الحسابات الأميركية، إذا ما دفع التحليل إلى نهاياته ولو مجازاً.
هناك طبعاً سبب آخر، أكثر آنية، يدفع الوفد المفاوض في جنيف إلى التوصل إلى تفاهم من أي نوع كان مع نظيره الإيراني. تدرك إدارة باراك أوباما أنها لا تستطيع أن تجعل ممثلي إدارة حسن روحاني يعودون إلى بلادهم خالي الوفاض. لا شك في أنها اتخذت قراراً، وراء كواليس العملية التفاوضية، بإعطاء الإيرانيين شيئاً ما يواجهون به التيارات الرافضة للحوار مع أميركا في داخل الجمهورية الإسلامية. بنظرها، ليس مهماً طبيعة التفاهم، المهم أن يكون شيئاً تستطيع حكومة روحاني المحاججة به في الداخل.

الحاجة والضرورة

في المقابل، فإن الوفد المفاوض الإيراني دخل جنيف بمجموعة من الحاجات والضرورات. هو أولاً يدرك حجم المشكلة الاقتصادية في بلاده التي انخفض تصديرها النفطي من 3.5 ملايين برميل في اليوم إلى 850 ألفاً، مع ما لذلك من آثار معيشية في بلد تعتبر الواردات النفطة من أعمدة موازنته. مشكلة أقام حسن روحاني حملته الانتخابية على وعد بحلها، عبر انفتاح على الغرب يؤدي إلى إزالة العقوبات المفروضة دولياً على إيران. وهو ثانياً يدرك أنه يواجه عاصفة من الرفض لسياسته الانفتاحية على الغرب، على قاعدة أنها لن تؤدي إلى شيء وأنها لن تأتي على إيران إلا بتنازلات في مقابل لا شيء. في الوقت نفسه، هو يدرك ضرورة أن يعود بشيء ما يستطيع أن يسوقه على أنه إنجاز يدعم حجته بصوابية نهجه، من دون أن يلامس الخطوط التي يعتبرها التيار المتشدد تنازلات. صحيح أن المرشد علي خامنئي حدد هذا السقف بحق إيران في التخصيب وعلى أراضيها، لكن الأصوليين يعتبرون أي قبول بنسبة تخصيب تحت الـ20 في المئة تنازلاً عن حق تم انتزاعه بالقوة، والمطلوب شيء واحد فقط، ألا وهو الاعتراف به، فضلاً طبعاً عن ضرورة عدم ربط الملف النووي بأي ملف آخر، بمعنى أن يعطى الغرب أي فرصة لانتزاع تنازلات في أماكن أخرى.

فرنسا والتماهي الخليجي

كثيرة هي الأمور التي يمكن أن تقال في فرنسا التي تحولت، منذ عهد نيكولا ساركوزي، إلى دولة تابعة لأميركا، مطية يستخدمها راعي البقر في مهمته القذرة. الشواهد كثيرة، من ليبيا إلى مالي وسوريا، حتى احتلت المكانة التي تشغلها بريطانيا طوني بلير في هذا الإطار. بل إن عهد فرانسوا هولاند الاشتراكي بلغ حداً من الانحطاط السياسي، على المستويين الداخلي والخارجي، يندى له الجبين، ولا يليق بدولة فتحت ثورتها، قبل أكثر من 200 عام، عصراً عالمياً مشرقاً على مستوى الحقوق والحريات.
لكن شتان ما بين فرنسا اليوم وفرنسا الأمس (الاستعمارية). تزلف للكيان الصهيوني الذي يزوره هولاند خلال أيام سعياً لمباركة إسرائيلية، وصفقات تسلح متوقعة مع الخليج، جعلت باريس أكثر الآذان إصغاءً للتعليمات الخليجية، السعودية خاصة. لكن فرنسا، تبقى نفسها تلك الدولة التي تجيد اللعب على الخطاب وإقامة الحجة تحت عنوان خدمة المصالح الغربية.
أقام الموفد الفرنسي، الذي استغل الإجماع المفروض في مجموعة «5+1»، مرافعته على قاعدة بسيطة: جدار العقوبات الذي فرضناه أخيراً على إيران بنيناه بدموع العين، واستغرق سنوات لتشييده. احتاج الأمر إلى فرض عقوبات ليس فقط على الدولة المستوردة للنفط الإيراني، بل على الشركة التي تملك الناقلة وشركة التأمين التي تؤمن عليها، وعلى الشركة المالكة لمصفاة التكرير، وعلى شركة النفط التي تؤمن عليها، وعلى المصرف الذي يحجز الاعتمادات... في المقابل، نحن ندرك عطش الشركات الغربية، وهي بعشرات الآلاف، إلى السوق الإيرانية، التي ستستغل أي كوة للتدفق عبرها بما يؤدي إلى توَسّعها تلقائياً وانهيار هذا الجدار في نهاية المطاف.
المضحك المبكي أن الأطراف الثلاثة محقة في تحليلها: هناك تقاطع أميركي ـــ إيراني ظرفي، لا بد أن ينتج اتفاق إطار، عاجلاً أو آجلاً، سيؤدي إلى كوّة تسقط جدار العقوبات، ورقة الضغط الوحيدة على إيران. والرابح طبعاً من يضحك آخيراً.