خَطَت «محكمة العدل الدولية» خطوة مهمّة إلى الأمام، في الاستجابة لدعوى جنوب أفريقيا ضدّ الكيان الصهيوني الذي يرتكب واحدة من أفظع جرائم الإبادة الجماعية في حقّ الفلسطينيين، بمطالبتها الأخير (28 آذار الفائت) بالسماح «بوصول غير مقيّد» للإمدادات والمساعدات الأساسية إلى سكان غزة، بما في ذلك الطعام والمياه والوقود والإمدادات الطبية. كما أمرت المحكمة، في قراراها الذي جاء في 14 صفحة، بعد صمت مطبق على مدى أسابيع، تل أبيب، بمنع جيشها من الإضرار بحقوق الفلسطينيين «وفقاً لمعاهدة الإبادة»، فيما اكتسبت الخطوة أهمية مضاعفة مع نمو التأييد الدولي لجهود بريتوريا في الملف، والتآكل غير المسبوق لسمعة إسرائيل حتى في قلب غرب أوروبا وفي صفوف قطاعات رسمية وشعبية أميركية.
بريتوريا تجتاز اختبار المصداقية
واصلت جنوب أفريقيا متابعة دعواها ضدّ إسرائيل من دون كلل، أو جنوح إلى «مناورات» وتفاهمات سعت واشنطن إلى جرّها إليها، بهدف تثبيط جهودها الداعمة للقضية الفلسطينية، والتي حظيت، في نهاية الشهر الماضي، بدعم دولي كبير، وآتت أُكلها بتعزيز صورة إسرائيل كدولة منتهِكة للقوانين الدولية الإنسانية. وربّما برز ذلك في إعلان عدد من الدول الأوروبية - في مقدّمتها إسبانيا - عزمها المضيّ قُدماً في مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ما أثار غضب تل أبيب؛ وكذلك في إعلان إيرلندا، في بيان لوزير خارجيتها مايكل مارتن (نهاية آذار)، عزمها التدخّل دعماً لدعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، في ما عُدّ أقوى موقف لدبلن تجاه دولة الاحتلال منذ سنوات.
وفي تطوّر مهمّ، اتّفقت «العدل الدولية» مع مطالب بريتوريا، ولا سيما لناحية عدم التزام إسرائيل بالأمر الأول الصادر عن المحكمة في كانون الثاني الماضي، ما دفع الأخيرة إلى إصدار مزيد من الإجراءات؛ إذ أمرت (بالإجماع هذه المرّة)، إسرائيل، باتّخاذ إجراءات تشمل فتح مزيد من المعابر البرية للسماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ووقف ارتكاب جيشها أعمالاً تلحق الضرر بحقوق الفلسطينيين «ومنها منع وصول المساعدات الإنسانية المطلوبة على نحو ملحّ». كما شملت القرارات إلزام تل أبيب بتسليم تقرير للمحكمة في غضون شهر بخصوص الإجراءات المتّخذة لتنفيذ أمرها، مع التأكيد أن الأوامر الجديدة مكمّلة لقرارات الـ26 من كانون الثاني. ومن جهتها، رحّبت بريتوريا بقوّة بقرار المحكمة، الذي اعتبره فنسنت ماغوينيا، الناطق باسم الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوسا، خطوة مهمّة تستدعي «تطبيق إستراتيجيات جديدة» لحماية حقّ الفلسطينيين الجماعي في الوجود. وعمد رامافوسا نفسه إلى مباركة قرار المحكمة (30 آذار)، والتعبير عن سعادته بالتفاف مزيد من الدول حول موقف بلاده ممّا يجري، وكذلك ثبوت نجاعة خطوة بريتوريا الشجاعة «لتحقيق مصالح البشرية».
الجهد الإيرلندي المحدّد بشمول تعريف الإبادة أعمال منع تقديم المساعدات سيكون ورقة مهمّة جداً


إيرلندا وجنوب أفريقيا: إثبات الإبادة
أكدت دبلن، في سياق عرض موقفها من دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، أن حكومتها تسعى إلى تضمين تعريف الإبادة بند منع وصول المعونات الإنسانية، فيما لفت مايكل مارتن إلى انتهاج إسرائيل نمطاً سلوكيّاً واضحاً في إعاقة المعونات، ما أسفر عن معاناة شاملة (لسكان القطاع) مع «مواجهة نصف السكان المجاعة، ووصول نسبة انعدام الأمن الغذائي إلى 100%»، وهي تصريحات اتّسقت مع ما أوردته هيئات المعونة المختلفة من أن نسبة ما يصل إلى غزة من المساعدات المطلوبة لا يتجاوز الـ20%. واستجابت السفارة الإسرائيلية في دبلن فوراً لخطوة الأخيرة، بتحذير إيرلندا (31 آذار) من انعكاسات الانصياع لدعوات قطع الصلات التجارية والديبلوماسية بين البلدين «على الاقتصاد الإيرلندي»، مستشعرةً بذلك حجم الضغوط الشعبية الكبيرة على حكومة دبلن لاتّخاذ موقف أكثر حسماً تجاه إسرائيل في ملفات عدّة، وفي مقدّمتها الإبادة في غزة. وتضمّن بيان السفارة لهجة تحذيرية واضحة بتأكيده أن «محاولة زعزعة انتظام التجارة بين بلدينا الديموقراطيَّين لن يسهم في وقف الصراع أو تعزيز الاستقرار، بل سيكون له أثر تعميق الانقسام واستهداف أطراف غير منخرطة (في الصراع)». وهكذا، فإن الجهد الإيرلندي سيكون ورقة مهمّة جداً في إثبات ارتكاب إسرائيل أعمال الإبادة بالفعل، وربّما يسهم في تقلّص المدة المتوقّعة لإصدار المحكمة حكمها بحقّ الكيان الصهيوني. ويشي التشابه الماثل بين موقفَي البلدَين، والاستجابة الإسرائيلية المدعومة أميركيّاً على الأقل (من بوابة الاقتصاد)، بتمدّد حدود الدعم الدولي لبريتوريا في الملف الراهن خارج «الجنوب العالمي».

إسرائيل على الخطّ: محاولات غسل السمعة
فيما تتصاعد التفاعلات الدولية والإقليمية للوصول إلى تسوية ما للأزمة، بادرت الخارجية الإسرائيلية إلى الاستجابة (غير المباشرة) لقرار «العدل الدولية»، معلنةً (28 آذار) أنها ستنظر في توسيع خيارات تقديم المعونات وحجم الداخل منها إلى القطاع. ونشر الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية، ليور هيات، بياناً في هذا الإطار، معلناً عزم بلاده التعاون مع الأمم المتحدة، فيما سُجّلت تصريحات مستمرّة لـ«الكوجات» (الجهاز المسؤول عن تطبيق سياسات إسرائيل المدنية في قطاع غزة) مفادها عدم وجود قيود مفروضة على المعونات الداخلة إلى القطاع.
ومع فشل إسرائيل حتى الآن في الحشد ضدّ بريتوريا، فهي لجأت، في الآونة الأخيرة، إلى حملات دعائية موجّهة داخل قطاعات نخبوية في جنوب أفريقيا، في محاولات بائسة لتبييض سمعتها. فعلى سبيل المثال، استقبل الكيان الصهيوني، نهاية الشهر الماضي، وفداً من قادة المجتمع والدين (14 شخصاً) للقيام بجولة جنوبي إسرائيل وزيارة «الكنيسيت»، تلاها إعلانهم عدم قبولهم «أعمال حكومتهم واتهاماتها لإسرائيل بارتكاب إبادة». وقد احتفت وسائل الإعلام الإسرائيلية بزيارة الوفد بشكل استثنائي، ووصفته بعض الصحف بـ«بعثة تقصّي الحقائق»، رغم حقيقة تنظيم الزيارة من قِبَل جهات أهلية، وهي: «جمعية أصدقاء إسرائيل الجنوب أفارقة»، و«وكالة ديبلوآكت» الإسرائيلية المعنية بـ«مكافحة معاداة السامية». ولا تبدو تلك المحاولات ذات جدوى في ظلّ انبراء أصوات دولية وأممية مهمّة لإدانة الإبادة الصهيونية، ووسط اضطرابات داخلية تشهدها إسرائيل على خلفية أداء رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، في الحرب.

خلاصة
نالت بريتوريا مجدّداً من خصمها الصهيوني في محفل «محكمة العدل الدولية»، في نجاح تزامن هذه المرّة مع دعم دولي متزايد لخطواتها، التي تتّضح يوماً بعد آخر صحّتها، فضلاً عن تحوّل مهمّ وهو الاقتناع الدولي بجدوى رفع قضية في حقّ هذا الكيان. ويُتوقّع أن يشكّل دعم إيرلندا لجنوب أفريقيا في القضية الراهنة فارقاً، حال قبول المحكمة تضمين تعريف الإبادة منع دخول المساعدات عمداً. وإلى جانب النجاح المعنوي والأخلاقي الذي حازته بريتوريا، فإنها حقّقت دفعة قوية جداً لدورها كدولة إقليمية رائدة ليس أفريقيّاً فحسب، أو في نطاق الجنوب العالمي، بل في ما يتجاوزه إلى أوروبا.