غزة | تستمر مأساة «مجمع ناصر الطبي» في مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، بوصفها واحدة من المجازر التي يجري بثّ فصولها على مدار الساعة وعلى الهواء مباشرة. الشهود حاضرون، والمشاهد المروّعة توثّقها الكاميرات، لكنّ العالم ما زال بحاجة إلى سنوات من التحقيق كي يقر بأن إسرائيل، مدلّلة عالم الديموقراطية وحقوق الإنسان، ارتكبت فيها مخالفة. أمس، عثرت طواقم الدفاع المدني على العشرات من الجثامين المدفونة تحت أكوام التراب والنفايات، علماً أن بعضها سُرقت منها أعضاء و20 منها لأشخاص دُفنوا أحياء (باعتبار أنها غير مصابة)، وأخرى لأشخاص عبث الاحتلال في أجسادهم ثم ألبسهم أكفاناً من عدة طبقات لكي يخفي معالم جريمته.ليس سهلاً وصف ما يحدث في تلك المنطقة، إذ تجلس المئات من العائلات من شروق الشمس وحتى المغيب، في انتظار الوصول إلى جثمان قريب. يحدّق أفرادها في كل جثة متحلّلة، للبحث عن ملبس أو خاتم أو أي إشارة يستدلّون بها على أن الجسد الذي نال التراب والتحلّل من ملامحه هو لقريبهم. للفرح هنا طقوس أخرى، إذ يُطلق أحد الرجال تنهيدة مصحوبة بالحمد والشكر، إن هو عثر بعد أسابيع من الانتظار على جثمان نجله. يسجد على الأرض، يحتضن الجسد الحبيب، ثم يمضي به لدفنه مكرّماً في المقبرة، أما لماذا الفرح؟ فلأن الأب ستنتهي لديه الحيرة حول مصير نجله. ويقول والد أحد الشهداء لـ«الأخبار»: «كنا نتوقّع أنه استشهد. لكنّ دفْنه وتكريمه يطفئان النار المشتعلة في قلوبنا منذ شهرين، ويريحاننا من عذاب التفكير بمصيره، ويضعان حداً لمسلسل الرعب الذي نعيشه يومياً». ويضيف: «هل تعلم ما يعنيه أن تصحو يومياً وتأتي إلى هنا، وتكون لديك مهمة واحدة، هي تفحص الجثامين المتحلّلة، والنظر ملياً في الوجه، والتدقيق في لون الشعر، وتذكّر لون القميص الذي كان يلبسه نجلك، ثم تعود إلى بيتك خائباً، على موعد مع يوم آخر من ذات التفاصيل القاسية؟ (..) لأجل هذا سيفرح من يجد جثمان ابنه أو أخيه. سيعود إلى ممارسة ترف شقاء الحياة بعيداً عن الأموات».
وآخر الإحصائيات التي قدّمها الدفاع المدني، تشير إلى أن نحو ألف نازح وجريح، كانوا في «مجمّع ناصر الطبي»، لا تتوافر أي معلومات عن مصيرهم. وتتزايد بشكل يومي أعداد المقابر الجماعية المكتشّفة في جنبات المستشفى ومحيطه، حيث زاد عدد الجثامين المنتشلة على 300 شهيد. أما عن الصورة التي يجدون عليها جثامين الشهداء، فتشير إفادات شهود عيان واكبوا الحدث اليومي، إلى أن جنود جيش العدو تفنّنوا في طرق القتل. ويقول محمد القطاطوة، لـ«الأخبار»: «وجدنا بعض الشهداء معصوبي الأعين والأيدي إلى الخلف، ومصابين بالرصاص، وآخرين يبدو أن جرافة دي أو دبابة جرفتهم وهم ينزفون وطمست ملامحهم تماماً، وثمة أيضاً من حفر من جنود العدو حفراً بعمق 3 أمتار لإخفاء جريمة قتلهم».
الرقعة الجغرافية التي تنتشر فيها المقابر وطريقة الدفن، تشيران إلى أن جنود الاحتلال تصرّفوا وفق تعليمات تهدف إلى إخفاء معالم الجرائم قدر الإمكان، حيث وُجدت بعض المقابر في الأزقة، وبعضها الآخر تحت المتاريس والكثبان الرملية، وبعض ثالث أسفل أكوام القمامة. ويوضح القطاطوة: «وجدنا جثامين لشهداء في الممرّات والطرق التي سوّتها الجرافات بالأرض وصنعت منها ممرّات للعبور، أي في مناطق ليست متوقّعة. ما زالت مهمة الطواقم شاقّة، والمشكلة أن الاحتلال لم ينشر منذ بداية الحرب أي قوائم يعلن فيها عن الأسرى لديه. لذا، فإن مصير من كانوا في مستشفى ناصر، تراوح بين الإعدام والدفن ميدانياً، أو الاعتقال والتغييب في السجون».