حين وصل الصربي ألكسندر إيليتش إلى لبنان في آب من عام 2022، كانت الآمال كبيرة على المدرب الصربي لإحداث تغيير على صعيد منتخب لبنان وتجديد دماء هذا المنتخب بعد أن اقترب عدد كبير من لاعبيه الأساسيين من «خريف العمر الكروي». توسّم المسؤولون عن اللعبة بإيليتش خيراً انطلاقاً من الاستراتيجية التي قدّمها والقائمة على عملية إحلال وتجديد هدفها التأهّل إلى كأس العالم 2026 بعد زيادة عدد المنتخبات إلى 48 ورفع حصة قارة آسيا إلى سبع مقاعد ونصف. صحيح أن لبنان يشارك في استحقاق هام جداً وهو كأس آسيا مطلع العام المقبل، لكن الهدف الأساسي كانت تصفيات كأس العالم 2026 وإيجاد توليفة وعناصر جديدة على صعيد المنتخب قادرة على خلافة الجيل الحالي من اللاعبين. الإستراتيجية على الورق كانت جيدة، وبدت شخصية إيليتش ونظرته ملائمة لتنفيذ هذه الإستراتيجية. لكن حسابات الحقل خالفت حسابات البيدر، فلم يستطع إيليتش تنفيذ مخططه، أو أن خطة التنفيذ لم تتلاءم مع المعطيات على أرض الواقع.لم يحقق إيليتش النتائج المطلوبة، فبدأ التفكير من قبل بعض الأطراف الأساسية في الاتحاد بضرورة تغيير إيليتش عاجلاً كسباً للوقت، انطلاقاً من قاعدة أن ما يُلمس على أرض الواقع لا يبشّر بالخير. تعززت هذه الفكرة بعد مشاركة منتخب لبنان في دورتي الهند منتصف العام الحالي والنتائج التي حققها، وتراجعه على صعيد الترتيب. لكن وجهة نظر أخرى، لم تكن مقتنعة بتغيير المدرب انطلاقاً من نقاط عدّة أبرزها أن إيليتش لم يحصل على فرصته كاملة من ناحية اكتمال عناصر المنتخب التي يريدها. ففي كل استحقاق ودّي كان إيليتش يذهب منقوص «السلاح» على صعيد اللاعبين بسبب الإصابات أو الاعتذار عن عدم الانضمام إلى المنتخب. نقطة ثانية كانت عامل الوقت ومدى صوابية تبديل مدرب قبل أشهر من كأس آسيا الذي سيُقام في قطر في كانون الثاني 2024. نقطة ثالثة تنطلق من سؤال: من البديل؟ وما عززّ تردد بعض المسؤولين في الاتحاد في عدم تغييره هو تمسّك اللاعبين بإيليتش ومنهم عدد كبير من المخضرمين وإصرارهم على أن تدريبه ممتاز لكن العناصر الموجودة غير كافية.
المهم أن القرار اتخذ، وأن الفرصة الأخيرة ستكون في معسكر تايلاند في أيلول الماضي والمباراتين الوديتين التي سيخوضهما منتخب لبنان فيها. ففي هذا المعسكر ستكون العناصر مكتملة والجميع حاضر، وبالتالي يجب على إيليتش تقديم أداء مقنع بالدرجة الأولى... ونتائج مرضية في الدرجة الثانية.
تم التعاطي بموضوع المدرب الجديد بعقلانية وهدوء وسريّة تامة


تعزيز إداري
ترافق ذلك مع تغييرات على صعيد منتخب لبنان عبر تعزيز الكادر الإداري والفني بتعيين رشيد نصّار مديراً للمنتخب، والعمل على عودة يوسف محمد «دودو» إلى المنتخب لما يشكّل من قيمة فنّية ومعنوية. فوجود «دودو» في المنتخب ضرورة على أكثر من صعيد، وخصوصاً على صعيد اللاعبين سواء المحليين أو المحترفين جدداً كانوا أم سابقين ولعبوا مع المنتخب. فحين يتحدث «دودو» مع أي لاعب من أصول لبنانية يسعى المسؤولون في المنتخب إلى إقناعه بالانضمام إلى المنتخب اللبناني، يكون الحال مختلفاً عن محادثة أي طرف آخر. فمهما كان اسم اللاعب الجديد ومسيرته الكروية، فإن مسيرة «دودو» أهم وأغنى وبالتالي لا يمكن لأي لاعب التعالي عليه أو اعتبار نفسه أهم منه. كما أن علاقة «دودو» بلاعبي المنتخب ممتازة ويكنّون له الاحترام وبالتالي وجوده مع المنتخب ضروري. وعليه، توجّه المنتخب إلى تايلاند وخاض أولى المباريات مع البلد المضيف وخسر. عاد وفاز على الهند لكن القرار كان قد اتّخذ: تغيير إيليتش. السبب الرئيسي وراء القرار كان ما حصل خلال المباراة من إدارة فنّية أثبتت أن إيليتش غير قادر على إدارة المباريات بشك ل صحيح، وظهر ذلك من خلال خياراته وتبديلاته. هو مدرب جيد وتمرينه ممتاز واللاعبون يحبّونه لكن على الدكّة الفنية يبدو غير قادر على إدارة الأمور.
عاد المنتخب إلى بيروت وكان القرار قد اتخذ بتغيير إيليتش، وما ساعد على إتمام الموضوع بهدوء هو أن المدرب الصربي كان مقتنعاً بضرورة الرحيل وأبلغ المسؤولين عن المنتخب بذلك فبدأ العمل على فسخ العقد بالتراضي، حيث وقّع إيليتش على مخالصة مع الاتحاد اللبناني أول من أمس الإثنين.
في هذه الأثناء كانت عملية إيجاد بديل له تُطبخ على نار هادئة. كان هناك لدى المسؤولين الأساسيين في الاتحاد توجّه بضرورة التأنّي والتفكير بعمق بمن سيخلف إيليتش، وبضرورة أن يكون القرار جماعياً على صعيد اللجنة التنفيذية، بعد غربلة الأسماء من قبل المسؤولين الفنيين في الاتحاد. وبالفعل هذا ما حصل، حيث عقدت اللجنة التنفيذية اجتماعاً يوم الخميس الماضي في 28 أيلول وعلى جدول الأعمال بندٌ وحيد: اختيار مدير فنّي للمنتخب، فكان القرار بإجماع الحاضرين باختيار يورسفيتش من بين عدد قليل من السير الذاتية لمدربين آخرين.
لكن كيف وصلت سيرة يورسفيتش وغيرها إلى طاولة اللجنة التنفيذية؟
ما إن تسرّب خبر قرار الاتحاد بالتغيير حتى انهالت السير الذاتية لمدربين من كلّ حدبٍ وصوب. توجّهت أنظار وكلاء اللاعبين وغيرهم إلى مقر الاتحاد في فردان، فكان هناك سير ذاتية بـ«الكيلو» عبر «الواتس آب» أو البريد الإلكتروني أو حتى باليد. أسماء عديدة مطروحة بعضها معروف وبعضها غير معروف كالعراقي عدنان حمد والتونسي منذر الكبير ومواطنه فوزي البنزرتي إلى جانب الأميركي أنطوني هادسون والإيطالي ألبيرتو إيفاني مساعد المدرب روبرتو مانشيني في كأس أوروبا 2020 والتي أحرزها الطليان، إلى جانب عدد من المدربين من دول ككرواتيا وتشيكيا والبوسنة.
لكن خلال هذه الفترة كان هناك الخيار الأساسي وشبه الوحيد لدى جميع المعنيين وهو: المدير الفني السابق لمنتخب لبنان المونتينيغري ميودراغ رادولوفيتش. فقد كان هناك رغبة قوية وقنوات اتصال لعودته إلى لبنان. لكنه يدرّب حالياً منتخب منتينيغرو وينافس على التأهّل إلى كأس أوروبا 2024. وبالتالي فإن عقده مع منتخب بلاده يستمر إلى ما بعد التصفيات، ما أدى إلى اعتذار رادولوفيتش عن عدم العودة إلى منتخب لبنان... لكنّه رشّح مدرباً سيتم الحديث عنه لاحقاً.

فاز يورسفيتش في «سباق» السير الذاتية من بين عدد كبير من المدربين المرشّحين لتدريب منتخب لبنان (ويب)

من هي الأسماء التي طُرحت؟
ما ميّز فترة اختيار المدرب الجديد للمنتخب هو الهدوء والعقلانية والأهم السريّة. فالاتحاد والمسؤولون فيه في وادٍ ومواقع التواصل الاجتماعي في وادٍ آخر. الاتحاد يدرس الأسماء السابقة ومواقع التواصل الإاجتماعي تتناقل أسماء أخرى كالألماني روبرت جاسبرت، والتونسي نبيل معلول واللبناني جمال طه وغيرهم من أسماء «فايسبوكية». حتى بعد اختيار يورسفيتش يوم الخميس في 28 أيلول الماضي لم يتسرّب الاسم حتى قبل لحظات من إعلان الاتحاد اللبناني لاسم المدرب الجديد عبر موقعه الرسمي أول من أمس الإثنين.
لدى دراسة السير الذاتية انطلق المسؤولون عن الملف من ثلاثة اعتبارات:
1- مسيرة المدرب كلاعب سابق سواء على صعيد منتخب بلاده أو الأندية التي لعب معها.
2- مسيرته كمدرب والمواقع التي شغلها.
3- هل سبق له أن عمل مع منتخبات؟
فتدريب المنتخبات يختلف عن تدريب الأندية. فمدرب النادي يكون على تماسٍ يومي مع لاعبيه بعكس مدرب المنتخب الذي يلتقي لاعبيه قبل الاستحقاقات فقط حتى لو كان يتابعهم في المباريات.
وانطلاقا مما تقدم تمت دراسة السير الذاتية مع مراعاة لشروط المدربين المرشحين على الصعيد المادي واللوجستي ومدة العقد وشروطه ومتطلبات كل مدرب.
وضعت لائحة قصيرة على طاولة اللجنة التنفيذية ضمت خمسة مدربين حيث أن ظروف عقود مدربين آخرين جعلتهم خارج الحسابات، حيث وصل إلى «نهائي» هذه اللائحة مدربان: الكرواتي نيكولا يورسفيتش ومواطنه أليوسو سانوفيتش.
الثاني هو من رشّحه رادولوفيتش، وسبق أن عمل كمدرب مساعد مع يورسفيتش في منتخب كرواتيا بين عامَي 2006 و2012 حيث كان الأخير مدرباً مساعداً أيضاً، وقد عملا سوياً مع المدرب الكرواتي المعروف سلافين بيليتش.
وقع الاختيار على يورسفيتش كي يكون مديراً فيناً لمنتخب لبنان من قبل اللجنة التنفيذية في جلسة يوم 28 الشهر الماضي لأسباب عدّة أبرزها سيرته الذاتية والمرونة التي أظهرها خلال المفاوضات، ورغبته في خوض تجربة آسيوية جديدة حيث أن مسيرته أوروبية بشكل أساسي. وما دفع أعضاء الاتحاد إلى استبعاد سانوفيتش هو شروط العقد ومتطلباته، إلى جانب ارتباطه مع الاتحاد الأوروبي كخبير ما قد يفرض عليه التواجد بعيداً عن لبنان في عدد من الفترات يكون فيها غير قادر على متابعة اللاعبين في الدوري المحلي.
انتهى مشوار تعيين مدرب لمنتخب لبنان وأصبحت الكرة في ملعب يورسفيتش الذي سيتحدث غداً الخميس إلى الرأي العام الكروي عبر مؤتمر صحافي سيُقام في فندق الرامادا عند الساعة 12:30 ظهراً. فماذا سيقول المدرب الجديد؟