الدوحة | كرّة القدم شغف مطلق، وإدمان ممتع، وصوغ لليوميات على إيقاع المطارح العالية من حماس يختلف بسويّته عن كلّ الأشياء المنافسة. التاريخ يمتلئ بالشواهد المثيرة التي تكرّس مكانتها المستحقّة في الطوابق المترفة بالعلّو الشاهق، لدرجة أنها أوقفت حروباً أهلية كما حصل في ساحل العاج عندما أطلق أسطورة تشلسي ديديه دروغبا نداء إلى المتقاتلين في بلده عقب تأهّلهم الأوّل إلى نهائيات كأس العالم 2006، وفتحت ممرّات وجسوراً إنسانية في نيجيريا عندما زار بيليه البلاد مع ناديه البرازيلي «سانتوس» لتُنظم لهم مباراة أوقفت نيران الحرب الانفصالية هناك، وتنعّم الناس ببضع ساعات من الهدوء وممرات الدواء والغذاء. بيليه ذاته حمل الكرة وقبّلها عندما بلغ هدفه الألف على أرضية «استاد ماركانا»، فيما أقام لها الأرجنتيني ديستيفانو نصباً عند مدخل بيته، وهو عبارة عن كرة من البرونز مع لوحة حجرية نُقشت عليها عبارة: «شكراً أيتها العجوز».
على صفة موازية راحت الاعتقادات توغل في العمق بإمكانية أن تكون الكرة وفيّة لأهلها إلى درجة مطالبة المنتخبيْن المتنافسيْن في نهائي عام 1930 للعب بكرة مصنوعة في بلديهما، فأمسك الحكم العصا من المنتصف باقتراح تاريخي وهو أن يُلعب الشوط الأوّل بكرة أرجنتينية، والشوط الثاني بكرة أورغويانية! وبالفعل كانت النتيجة في الشوط الأوّل لصالح الأرجنتين، وفي الثاني لصالح الأورغواي. لكنّ الكرة لا تنتظم بالوفاء ...
على ذكر الأورغواي يُعتبر الكاتب المنحدر من هذه البلاد إدواردو غاليانو واحداً من أهم من حكى عن كرة القدم وصاغ العلاقة العاطفية معها بلغة أدبية رفيعة في كتابه: «كرة القدم في الشمس والظل» (ترجمة صالح علماني). المترجم الفلسطيني السوري كرّس حياته لنقل أمّهات الأدب العالمي، وتحديداً من أميركا اللاتينية إلى اللغة العربية، وبطريقة لمّاحة وذكية توازي ابتكار وإلهام التأليف، من خلال صوغ الحالة الروائية بطريقة تنسجم مع اللغة العربية وصورها وتشبيهاتها وخصوصيتها المفرطة. وفي هذا الكتاب يعتقد غاليانو بأن الثقافة السائدة في المجتمع تنعكس على أداء فريق كرة القدم. فيما يعبّر بدون مواربة عن حلمه بأن يكون لاعباً: «لقد رغبت مثل جميع الأورغويانيين في أن أصبح لاعب كرة قدم، وقد كنت ألعب جيداً، كنتُ رائعاً، ولكن في الليل فقط، في أثناء نومي: أما في النھار فأنا أسوأ قدم متخشّبة شھدتھا ملاعب الأحياء في بلادي. لقد مرّت السنوات، ومع مرور الوقت انتھيت إلى القناعة بھويتي: فأنا مجرد متسوّل أطلب كرة قدم جيدة. أمضي عبر العالم حاملاً قبعتي، وأتوسّل في الاستادات: لعبة جميلة حباً بالربّ! وعندما أرى كرة قدم جيدة، أحمد ھذه المعجزة دون أن يھمّني قدر فجلة من ھو النادي أو البلد الذي قدّم ذلك اللعب الجيد».
(أ ف ب )

فيما يسرد قصة الكرة وكيف تعلّقت بها الشعوب، ودوّنتها الحضارات واهتم بها القياصرة والملوك، كما يرصد الفرمانات الرسمية التي صدرت عن السلاطين والحكّام بشأن كرة القدم، ويتوقّف أمام تاريخ ممتدّ كانت فيه الكرة حكاية تقطف الذرة الهائمة بالسحر!
هذه ملامح وأفكار ستتخاطر على أذهان بعض الزاحفين مع الجمهور لحضور إحدى مباريات «كأس آسيا قطر 2023» وخاصة المباراة التي انتهت الليلة بفوز قطر على إيران بثلاثة أهداف مقابل هدفين وحسمت موضوع أن تكون الكأس عربية إما لقطر أو للأردن! خلال الساعات الماضية وأثناء المسير الجماهيري باتجاه «استاد الثمامة» حضر غاليانو ولمعت مقارباته الأدبية البليغة، خاصة عندما انفرد بوصف موغل في العمق لحال الملاعب قبل أن يغزوها الجمهور، وتمتلئ بالصخب والفرح والتباينات المذهلة، وبعدما يغادرها كيف تصبح أوقاتها مثل ليل أرملة وحيدة مات زوجها في عزّ شبابه، وانفضّ أولادها عنها في زواريب الحياة بحثاً عن فرص موعودة بعيداً عن بيت العائلة!
هذا يحتاج إلى من يمسك كاميرته ويصوّر انهمار الجمهور على المدرّجات مثل المطر الغزير والتواتر المذهل للمدرّجات مقارنة بالنتيجة والمعطيات ثم السكون المرعب بعد أن يخلو المعبد من زائريه!