عرفت كرة القدم الأوروبية على امتداد التاريخ منعطفات خطيرة هددت استمرارها. حروبٌ وأزمات وضعت السيدة العجوز على شفير الزوال الكروي، لولا تدارك الأمور في اللحظات الأخيرة. آخر التحديات ظهرت عام 2019، عندما حالَ فيروس كورونا حينها دون حضور المشجعين. غيابٌ عن الملاعب حرَمَ الأندية من إيرادات «روتينية» تقدّر بالملايين، وتفاقمت الصرخة مع التهديد بتقليص مداخيل البث التلفزيوني إثر تعليق الروزنامة الكروية، ما أثَّر تباعاً على الدفاتر المحاسبية.على خلفية ذلك، دخلت أندية أوروبية مختلفة في دوّامة الديون، وبلغَ بعضها حدّ العجز والإفلاس. عشرات اللاعبين لم يتلقّوا أجورهم، وبعضهم أُجبروا على تعديل العقود بما يخدم الظروف القسرية. وعليه، انقلبت «الأعراف» في أسواق الانتقالات وتغيّرت موازين القوى بين الأندية، ما أنبأَ بعصرٍ جديد في كرة القدم الأوروبية قوامه الهشاشة المالية والضبابية.
لتجاوز «العاصفة»، اعتمدت الأندية، من تلقاء نفسها أو بتشجيعٍ اتحادي، إجراءات استثنائية. منها من باع جزءاً من الأصول الشخصية، كنادي برشلونة، وأخرى رهنَت عائدات البث المستقبلية مقابل سيولة «تُسيسِر» الحال. ولأنَّ الوضع كان عشوائياً إلى أبعد الحدود، لجأت بعض الأندية إلى الطرق الملتوية، فزوّرت دفاترها المحاسبية بهدف الامتثال «الظاهري» لقوانين الاستدامة المالية التي تنصّها الاتحادات القارية الحاكمة.
بالطبع، حاول الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا)، ومن خلفه الاتحاد الدولي (فيفا)، امتصاص الصعقة وإعادة الاستقرار على مراحل، غير أن بطء تحقيق نتائج ملموسة جعل الأندية تأخذ على عاتقها زمام الأمور. «مبادرة» خطّة النهوض تمثلت بمشروع «سوبر ليغ» والذي يقضي بإنشاء بطولة انفصالية بين الفرق الكبرى، بقيادة رئيس ريال مدريد فلورنتينو بيريز، الذي وعَدَ بأن البطولة الجديدة سوف تدرّ عائدات ضخمة على الأندية المشاركة.
خطة رفضها القيّمون على كرة القدم بشكلٍ قاطع، وهددوا الأندية المشاركة بعقوبات وخيمة، فانتهى المشروع قبل أن يبصر النور. حتى عندما حسّنَ دعاة البطولة الجديدة من شكلها، وحتى عندما ربحوا قضية ضد فيفا ويويفا تندّد باحتكارِهما لمسابقات كرة القدم، ظلّت سوبر ليغ حبراً على ورق.
نمت إيرادات كرة القدم للأندية الأوروبية بمعدل أكثر من مليار يورو سنوياً بين عامَي 2013 و2023


وفي ظل التحسُّن الملموس لعائدات أندية أوروبا أخيراً، قد تستمر البطولة في مخيلة بيريز وأتباعه بصفتها حلماً وردياً، لا أكثر.
5 سنوات مرَّت على الجائحة، عكست «متانة» الاتحادات الحاكمة في إدارة كرة القدم. الإجراءات المختلفة التي اتُّبعت من تأمين قروض ميسّرة إلى تغيير شكل البطولات والتساهل ببعض القوانين لفترة جزئية، حصدت نهوضاً لافتاً أخيراً.
فبحسب تقرير الاتحاد الأوروبي لكرة القدم حول المشهد المالي الجديد للفرق التابعة له، وصلت إيرادات أندية الدرجة الأولى الأوروبية إلى مستوى قياسي يلامس الـ 24 مليار يورو في العام المالي 2022، فيما يتوقع أن تنمو الإيرادات إلى ما يتجاوز 26 مليار يورو في العام المالي 2023.
أفاد التقرير بأنه «على الرغم من وباء كورونا، فقد نمت إيرادات كرة القدم للأندية الأوروبية بمعدل أكثر من مليار يورو سنوياً بين عامي 2013 و2023 من 15 مليار يورو إلى 26 مليار يورو المتوقعة».
وقال رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، ألكسندر تشيفرين، في هذا الإطار: «يوضح التقرير أن 93.5 % من إيرادات منافسات الأندية الأوروبية يتم توجيهها مرة أخرى إلى الأندية المشاركة، مع إعادة استثمار نسبة 6.5 % المتبقية في التمويل الشعبي للعبة الهواة، وخلال العقد الماضي، ارتفعت إيرادات مسابقات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بنسبة مذهلة بلغت 122 %».
من جهته، أفاد أندريا ترافيرسو، مدير الاستدامة المالية: «هناك علامات قوية في أحدث الأرقام التي تقوم الأندية بتقييمها وتحاول السيطرة على تكاليفها، في عام 2023، زادت أجور اللاعبين بأقل من 1 %، وهو أدنى مستوى نموّ على الإطلاق، ما أسهم في إعادة التوازن بين نسبة الأجور إلى الإيرادات لعديد من الأندية».
هذه الأرقام وغيرها تصبّ نسبياً في مصلحة يويفا وفيفا بوجه «سوبر ليغ». وللمفارقة، فإن أكثر الأندية تحقيقاً للإيرادات عام 2023 هو ريال مدريد، الذي يقود رئيسه بيريز مشروع البطولة الانفصالية.
مع ذلك، تبقى الأرقام مؤشراً على تحسن ونهوض جزئي، كما أنه وبدرجةٍ كبيرة، متفاوت. فضمن أول 20 نادياً في قائمة الأندية الأكثر تحقيقاً للإيرادات، هناك تسعة أندية منافسة في الدوري الإنكليزي الممتاز بإيرادات إجمالية قدرها 6.5 مليارات يورو عام 2022. من جهته، حلَّ الدوري الإسباني في المركز الثاني بتسجيله إيرادات بقيمة 3.3 مليارات يورو، يليه الدوري الألماني الذي سجل 3.2 مليارات يورو.
وبحسب صحيفة «واشنطن بوست»، تعادل إيرادات أندية «بريمييرليغ» ما حققته كل الأندية الـ 642 الأخرى في 50 دولة خارج الدوريات الخمسة الكبرى «التقليدية» (إنكلترا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا).
هذا التفاوت الواضح قد يزيد إصرار بيريز وشركائه لإطلاق بطولة انفصالية، وخاصةً بعد كسبهم الدعوى ضد الاتحادَين الأوروبي والدولي لكرة القدم قبل أشهر. لكن يجب الإشارة إلى أن حتى بطولة «سوبر ليغ» قد لا تضمن حصد إيرادات عادلة بالنسبة إلى جميع الفرق. الأرقام تُظهر انتصاراً ملموساً للجهات الحاكمة، بانتظار تحريك بيريز حجراً جديداً على رقعة «النزال» ضد «يويفا» و«فيفا».