تصدّرت كرة القدم اللبنانية المشهد مجدداً، وانقلبت على واقع البلاد، وعلى مأساة الملاعب، وعلى كلّ من قال بأن أهل اللعبة هجروها."دربي بيروت" الذي استضافته عاصمة الشمال طرابلس للمرة الـ 22، لم يكن غريباً عنها، فهي ثانية أكثر المدن استضافةً له بعد العاصمة اللبنانية. لذا لم تكن أبداً إقامتها بعيداً عن بيروت ظرفاً قاهراً بالنسبة إلى محبي النجمة والأنصار الذين أكدوا مجدداً على حجم شعبية الرياضة الوحيدة التي تجمع في بطولتها لأندية الدرجة الأولى فرقاً متسلّحة بقواعد جماهيرية من الشمال إلى الجنوب، وذلك منذ زمنٍ بعيد، عرفت خلاله هذه الأندية فترات صعود وهبوط كما حال اللعبة، لكن شعبها لم يتركها يوماً بل ورّث حبها لأبنائه والأجيال اللاحقة.
هي بالفعل حالةٌ خاصة خلقتها المواجهة بين الغريمين التقليديين، إذ أقيمت في يوم الجمعة وفي توقيتٍ يلتقي مع ساعات العمل (الساعة 15.00)، ومع زحمة سيرٍ تمتد عادةً على طول الساحل من بيروت وصولاً إلى الشمال. لكن كل هذه الظروف لم تمنع جمهور قطبَي الكرة اللبنانية من القدوم من مختلف المناطق لإحياء صورةٍ قديمة طبعتها لقاءاتهما دوماً، وهي صورة المدرجات المكتظّة بروادها الذين يرسمون لوحاتٍ تشجيعية بأصواتهم، أعلامهم، والشماريخ التي تعكس ألوان فريقهم المفضّل.
لم يفوّت جمهور النجمة المناسبة فملأ جهة مدرجه بمشجّعين غالبيتهم من بيروت (غيفارا عبود)

أوتوستراد النجمة والأنصار
المتّجه من بيروت إلى طرابلس كان بإمكانه توقّع التدفّق الجماهيري الذي وصفته الصورة أكثر من الكلام، إذ بدا الأوتوستراد وكأنه أرض خاصة بمشجّعي النجمة والأنصار الذين رفعوا الأعلام من نوافذ الباصات والسيارات التي أقلّتهم إلى ملعب الرئيس الشهيد رشيد كرامي.
المشهد بدا أكثر اكتظاظاً عند الوصول إلى المدينة والتنقّل بين شوارعها وصولاً إلى محيط الملعب، حيث ارتدى الرجال والسيدات قمصان الفريقين وحمل معظمهم الأعلام متنقلين من مقهى إلى مطعم. واللافت أنه كان بالإمكان معرفة أن جيلاً جديداً تسلّم راية التشجيع، إذ زار طرابلس للمرة الأولى من أجل حضور "الدربي"، فهنا توقّفت سيارة إلى جانب الطريق فيها ثلاثة مشجعين أنصاريين يسألون نجماويَّيْن عن الطريق المؤدي إلى الملعب، فكانت الإجابة بسؤالٍ آخر: "هل أنت نجماوي أم أنصاري؟". الجواب: "أنا أنصاري"، ليأتي الردّ ممازحاً: "إذاً لن أرشدك إلى الطريق الصحيح".
محبو اللعبة الشعبية الأولى يصرخون: افتحوا أبواب الملاعب وخذوا ما يدهش العالم


بكل الأحوال، الأنصاريون حضروا بقوة هناك، ولقي الوافدون من بيروت من يحرص على إيصالهم إلى الجهة المشمسة من المدرجات كما أسموها، فتاريخياً تُعدّ طرابلس قلعةً أنصارية، فهناك يشعر "الزعيم" من دون مبالغة بأنه يلعب في ملعب بيروت البلدي، وهو الذي دأب أصلاً في الأعوام القريبة الماضية على ضمّ لاعبين طرابلسيين إليه، ما زاد من الارتباط العاطفي بينه وبين قاعدته الجماهيرية شمالاً.

(غيفارا عبود)

الجمهور يتحدّى الأزمة
عند الحديث عن الطريق، تطلّ مشاهد عدة تعكس التغيير الذي أصاب مقاربة المشجعين لحضور المباريات بعيداً عن ملاعب بيروت المُهملة من قبل الجهات الحكومية والمعنية، إذ كان التنقّل جماعياً إلى طرابلس لتوفير ثمن الوقود، فكلفة حضور المباراة بين مصاريف النقل وتناول طعام الغداء كون اللقاء أقيم في وقتٍ مبكر، ودفع ثمن تذكرة الدخول، يبدو كل ذلك باهظاً بالنسبة إلى بعض المشجعين. لذا لم يكن مستغرباً أن يجلس أنصاريّ مع مشجعَين نجماويَيْن على الطاولة نفسها، وهو ما يشرحه أبو إسماعيل بقوله: "للنجمة وللأنصار مشجعون متداخلون في كل المناطق اللبنانية، وفي كل مبنى في بيروت، وحتى في كل بيت". ويكمل ممازحاً: "لم نمانع أن يستقلّ جارنا أبو أحمد معنا السيارة إلى هنا، ففي النهاية لقد جلبناه ليشهد على خسارة فريقه، وليكون لنا مادةً مسلّية في طريق العودة الطويل".
(غيفارا عبود)

أبو أحمد خرج مبتسماً بلا شك بعد فوز الأنصار 2-1، لكنّ الخيبة قد لا تكون أصابت النجماويين فقط، إذ من تابع المباراة في الملعب أو عبر شاشة التلفزيون أدرك بلا شك بأن كرة القدم مظلومة إلى أبعد الحدود: أوّلاً عبر التشكيك بشعبيتها لأهدافٍ مشبوهة، وثانياً بسبب التبخيس بعمل أنديتها وروابط جماهيرها التي حضرت بقوة هذا الموسم، وثالثاً عبر حصر هذه الجماهير في ملاعب صغيرة لا تستوعب أعدادها.
هم، وعددهم أكثر من 10 آلاف، ربما صرخوا هاتفين للنجمة والأنصار يوم الجمعة الماضي، لكن بعد رؤية جهتَي المدرجين في طرابلس لا بدّ لجميع محبي اللعبة الشعبية الأولى أن يصرخوا: افتحوا لنا أبواب الملاعب وخذوا ما يدهش العالم!