1.6038 هو السعر القياسي الجديد الذي سجّله اليورو أمام الدولار أمس. أسباب تدهور العملة الخضراء واضحة: الركود والخوف من اضطرابات جديدة في أسواق المال. ولكن اقتصاد «العمّ سام» يستفيد من هذا النمط الذي يغذّي التصدير، وهو سلوك تقول أوروبا إنّه سيطلق «حرباً اقتصاديّة»

حسن شقراني
في منتصف الشهر الماضي، أعرب رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، بن برنانكي، عن قلقه من أنّ انخفاض سعر صرف الدولار قد يرفع من نسب التضخّم. وهو كان ولا يزال يتملّكه هاجس أنّ الولايات المتّحدة تعيش مراحل أولى من كساد، في الوقت الذي تستمرّ فيه أسعار السلع بالارتفاع. فالمرحلة التي تعيشها بلاده ليست ركوداً، وليست مصابة بتضخّم سببه المستويات العليا من النموّ. بل إنّها تعاني ما يسمّى الركود المصحوب بتضخّم.
وعلّة هذه الظاهرة يمكن شرحها كالتالي: التأزم الذي طرأ على الرهونات العقاريّة ولّد في الأسواق الماليّة العالميّة أزمة ائتمان وفقدان للثقة بين المدينين والدائنين. وأصبحت السيولة والتمويل عملة نادرة. كما أدّى إلى تراجع أداء البورصات، وإعلان العديد من المصارف عن خسائر فادحة، فيما وقعت أخرى كلياً في الفخّ المالي وانهارت، مثلما حدث مع المصرف الأميركي «BEAR STERNS»، الذي استحوذ عليه مصرف «JP MORGAN» بمساعدة فيدراليّة.
واضطرّ الفيدرالي الأميركي إلى ضخّ السيولة. أي إلى طبع مزيد من الدولارات. بينها ما كان إنقاذياً، وبينها ما خصّص لحقن الاقتصاد عبر الاستثمارات والقروض الرسميّة. وبحكم القانون الطبيعي للعرض والطلب، فإنّ ارتفاع المعروض من الدولار يؤدّي إلى انخفاض قيمته، أي إلى انخفاض سعر صرفه، في مقابل الجنيه ا لإسترليني والين... وبطبيعة الحال اليورو.
وانخفاض قيمة العملة الخضراء أمام عملة النجوم، لم يكن طارئاً، بل شهد زحفاً منذ إطلاق منطقة اليورو للعملة الموحّدة. ولكن التدابير الأميركيّة زادت من حدّته. وهنا يمكن التطرّق إلى جانب مثير من الآليّة التي اعتمدها القيّمون على الاقتصاد الأميركي لتجنّب التباطؤ. ففيما مؤشّرات الإنتاج والتوظيف إلى تراجع بسبب ارتفاع أكلاف المواد الأوليّة، يصبح الحلّ في اللجوء إلى التصدير. ولا يمكن المنافسة في الأسواق الخارجيّة من دون عملة منخفضة القيمة.
وهكذا، فإنّ إجراءات برنانكي، رغم ما صاحبها من ارتفاعات في نسب التضخّم، أدّت إلى نتيجتين: 1 ـــ مساعدة من يمكن مساعدته من المصارف والمؤسّسات الماليّة المتعثّرة. 2 ـــ إنقاذ النموّ الأميركي من «الوصول إلى نقطة الصفر!»، عبر إنعاشه بالتصدير.
وبحسب الأرقام الأخيرة لوزارة التجارة الأميركية، فإنّ شركات الصناعة والتصدير في الولايات المتحدة تزدهر. وفي هذا السياق تلفت «الجمعية القومية للمنتجين» إلى أنّ الصادرات ارتفعت بنسبة 12 في المئة هذا العام، وهي تترافق مع ارتفاع بسيط في الواردات بنسبة 4 في المئة، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من الانخفاض في العجز التجاري على مستوى المواد الغذائية المصنّعة، خلال أيار الماضي، فقد سجّل هذا العجز انخفاضاً بنسبة 11 في المئة مقارنة بالعام الماضي.
وتشدّد الجمعيّة على أنّ الصادرات تُبقي شركات الإنتاج في الولايات المتحدة هذا العام عائمة، مع النمو البسيط في الصادرات. وبالتالي تبرز الحاجة إلى مواصلة التوسّع في الصادرات، وهو السبب الذي دفع الجمعية للضغط بقوة من أجل إزالة القيود على الصادرات الأميركية في كولومبيا وباناما وكوريا الشمالية، عبر مصادقة الكونغرس على الاتفاقيات التجارية مع تلك الدول.
وهذه الحاجة تجد صداها في السوق بطريقة غير مباشرة الآن. فتسجيل اليورو سعراً قياسياً تاريخياً أمام الدولار أمس، سبق شهادة لبرنانكي أمام الكونغرس بشأن مستقبل الاقتصاد الأميركي. كما تزامن مع اضطراب جديد في الأسواق سببه ما يعانيه عملاقا سوق الرهونات العقاريّة في الولايات المتّحدة، «FREDDIE MAC» و«FANNIE MAE»، وخطّة الحكومة الفيدراليّة لإنقاذهما.
إذاً فلانخفاض سعر صرف الدولار انعكاس إيجابي على نموّ الاقتصاد الأميركي، من خلال تأثيره على نموّ الصادرات. ولكن هذا الانخفاض يرفع فاتورة استيراد النفط ويقلّص الاستهلاك المحلي، ويدفع نسب التضخّم نحو مستويات قياسيّة، كما هي الحال في أوروبا. وهنا يظهر التناقض بين برنانكي ونظيره الأوروبي، جان كلود تريشيه. فالأخير يوجّه السياسات الاقتصاديّة للقارّة العجوز نحو مزيد من مكافحة التضخّم.
وهكذا، فإنّ القوّتين الاقتصاديّتين العظيمتين تسيران على سكّتين متناقضتين. ومهما تكن الأسباب: مباشرة، يقصدها الاحتياطي الفيدرالي، أو غير مباشرة تولّدها الاضطرابات في السوق، فإنّ قيمة الدولار لا تنفكّ تنخفض، وفي ذلك إفادة للولايات المتّحدة، وإن كانت أوروبا منزعجة... الجميع يذكر حديث الرئيس نيكولا ساركوزي أمام الكونغرس الأميركي عن «حرب اقتصاديّة» تنشأ عن السلوك الأميركي.


انكسارات متلاحقة للحواجز

الرقم القياسي الجديد الذي سجّله اليورو أمام الدولار أمس، كسر الحاجز الأخير المسجّل في 22 نيسان الماضي. وهو 1.6019. وتذكّر الأرقام القياسيّة المتكرّرة بالمستوى القياسي الذي سجّل في تشرين الثاني من العام الماضي: 1.4730، بعدما أعرب مسؤولون صينيّون عن رغبتهم في منح اليورو دوراً أكبر في احتياطياتهم الأجنبيّة، وتشديدهم على أنّ الدولار بدأ يفقد مرتبة «العملة الاحتياطيّة العالميّة». وحينها أعرب الأوروبيّون عن امتعاضهم من أنّ انخفاض قيمة الدولار سيضرّ بتوقّعات النموّ في القارّة العجوز.