لندن | أعلن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بوريس جونسون، الجمعة، أنه سيتنحّى عن منصبه كنائب في مجلس العموم بمفعول فوري، وذلك بعد ساعات من اعتماد قائمة شرف استقالته التي وزّع فيها الألقاب الفخرية والأوسمة على عدد من أنصاره في «حزب المحافظين» الحاكم، بمن فيهم شخصيّات متورّطة في فضائح. واتهم جونسون، لجنة برلمانية - أغلبها من أعضاء حزبه - تحقّق في ما إذا كان رئيس الوزراء الأسبق ضلّل عمداً النواب في شأن فضيحة الحفلات التي كان ينظّمها مكتبه في «10 داونينغ ستريت» أثناء فترة الإغلاق الذي فرضه وباء «كوفيد 19»، بمحاولة «استخدام الإجراءات ضدّي لدفعي خارج البرلمان». وكانت اللجنة قد وجّهت لتوّها مذكّرة بمضمون الاتهامات الموجّهة ضد جونسون، والذي يُسمح له - وفق البروتوكول - بأسبوعين للتعليق عليها قبل إصدار القرار النهائي. وبحسب مطّلعين على مداولات اللجنة، فإن إدانة جونسون كانت شبه مؤكدة، ما كان سيؤدي تالياً إلى توقيفه على العمل لمدّة عشرة أيام، وربّما سحب الثقة منه وإجباره على ترك منصبه. ولكن خروج جونسون من البرلمان لن يؤثّر على عمل اللجنة البرلمانية التي يُتوقّع أن تَنشر تقريرها النهائي الأسبوع المقبل، على أن يصوّت النواب على توصياتها.وفي انتظار صدور التقرير، شنّ جونسون، في بيان، هجوماً حادّاً على حكومة ريشي سوناك، متّهماً إيّاها بأنها فاقدة للشرعيّة وللشعبيّة، وفاشلة في تحقيق طموحات الحزب الحاكم، مركّزاً على عجز رئيس الوزراء الحالي عن إقناع الأميركيين، خلال زيارته للولايات المتحدة، بتوقيع اتفاق شامل للتجارة الحرّة بين البلدَين. وقرأ الخبراء في البيان محاولة يائسة من جانب جونسون للوم الآخرين على عدّة أمور كان له - أثناء تولّيه المنصب التنفيذي الأهمّ في هيكيلة السلطة البريطانية - دور أساسي في التسبّب بها. ويقود جونسون جناحاً في الحزب الحاكم يشكّل، وفق التقديرات، أقلّ من ربع الأعضاء، بمن فيهم بعض الشخصيّات البارزة. ويرى غلاة أنصاره أن استبعاد هذه الشخصية الجدليّة من أجواء الحزب تشكّل «مأساة تامّة»، بعدما منح «المحافظين» تلك الفرص النادرة لإجراء تغييرات جذرية في البلاد عندما قادهم في انتخابات 2019 لتحقيق أغلبيّة مطلقة، وهي نتيجة قد لا تتكرّر قبل عقود. ومع ذلك، فإن ثلاثة أرباع قاعدة الحزب تدعم الرئيس الحالي ريشي سوناك، وتريد تجنّب المزيد من الخسائر بسبب فضائح جونسون وفريقه.
ويواجه الحزب الحاكم الذي يتمتّع بأغلبية مطلقة في مجلس العموم ويحتكر السلطة حتى موعد الانتخابات العامة العادية المقرّرة في كانون الثاني المقبل، انهياراً على مستوى التأييد الشعبي على خلفية فضائح جونسون نفسه، والموازنة التي قدّمتها خليفته ليز تراس قبل إسقاطها وانتقال المنصب إلى سوناك في تشرين الأول من العام الماضي، إضافة إلى حال التردّي الاقتصادي والاجتماعي الذي انتهت إليه البلاد بعد 13 عاماً من هيمنة «المحافظين» على السلطة. وتقول استطلاعات الرأي إن أحزاب المعارضة ستحقّق انتصاراً كاسحاً إذا أُجريت الانتخابات الآن، وستنتهي الحكومة حكماً في يد «حزب العمل» - أكبر أحزاب المعارضة -.
أحزاب المعارضة قالت إن «المحافظين» في حالة من الانهيار وفقدان الوزن


وأدّت استقالة «بوجو» - كما تطلِق على جونسون بعض صحف لندن - إلى إطلاق الإجراءات لتنظيم انتخابات فرعيّة للمقعد الذي يشغله في إحدى دوائر غربيّ العاصمة. وعلى رغم أن رئيس الوزراء الأسبق حاول إثارة عاصفة لحكومة سوناك عبر التهديد باستقالة نواب آخرين من أنصاره، إلّا أن الأمر اقتصر في النهاية على جونسون ونائبين آخرين فحسب (وزيرة الثقافة السابقة وحليفة جونسون نادين دوريس، ونايجل آدامز)، فيما قال آخرون إنهم على تأييدهم لجونسون لكنّهم سيستمرون في مناصبهم البرلمانية، ما يعني أن العاصفة (الجونسونيّة) الموعودة انتهت إلى كونها مجرّد زوبعة في فنجان، ولن يتجاوز تأثيرها حدود مقالات الصحف الأسبوعية التي تصدر صبيحة الأحد. وقد يمثّل إجراء انتخابات فرعيّة لثلاثة مقاعد تحدّياً أمام سوناك، إذ إن فرص خسارتها عالية جدّاً في ظلّ الأجواء الحالية الضاغطة، لكنّها لن تؤثّر في أيّ حال على الغالبية التي يتمتّع بها «حزب المحافظين» في مجلس العموم. ويبدو أن (السوناكيين) في الحزب يشعرون بالارتياح بعد تخلّصهم من «بوجو» وإرثه، وهو ما سيسمح لـ«المحافظين» بإعادة ترتيب أوراقهم استعداداً للانتخابات المقبلة. ونُقل عن أحد النواب، قوله: «نحن مسرورون جدّاً. لقد رحل الطفل الغضوب»، فيما قال آخر: «لقد تسبّب الحزب بجرح لنفسه عندما دافع عن جونسون ولا يزال هذا النزف مستمرّاً».
لكنّ أحزاب المعارضة قالت إن «المحافظين» في حالة من الانهيار وفقدان الوزن، ودعوا سوناك إلى الاستقالة والدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة. واعتبر «حزب الديموقراطيين الليبراليين» - ثاني أكبر حزب معارض - أن حلفاء سوناك وجونسون في حرب أهلية مفتوحة داخل الحزب الحاكم، ما يحتّم استقالة الحكومة.
من جهته، اعتبر زعيم «حزب العمل» السير كير ستارمر، أن رئيس الوزراء فقد السيطرة على حكومته، وتحدّاه بأن يمتلك الشجاعة للدعوة إلى انتخابات عامة و«السماح للمواطنين بالتعبير عن رأيهم في 13 عاماً من الفشل في عهد المحافظين». وكتب في مقالة له نشرتها إحدى الصحف: «يجب أن تتوقّف هذه المهزلة. لقد طفح الكيل بالناس».
يشكّك كثيرون في قدرة جونسون على العودة إلى السلطة، على رغم تاريخه الشهير بالعودة من (الموت المهني) عدّة مرّات، منذ طُرد من جريدة «تايمز» اللندنية عام 1987 - لتزويره اقتباساً في أحد مقالاته، ليُعيَّن بعدها مراسلاً في بروكسل لـ«تلغراف»، صحيفة اليمين البريطاني الأثيرة. ولخّص أحد قياديي الحزب الحاكم الصورة، بالقول: «لقد انتهى بوريس اليوم». لكنّ الذين يعرفون شخصية رئيس الوزراء الأسبق عن قرب، يقولون إنه لن يقدر على الانسحاب تماماً من الحياة السياسية. ومن المرجّح أن يبدأ بإثارة المتاعب لسوناك وأعدائه الآخرين في الحزب من خلال الكتابة في الصحف - غرامه الدائم -. وتصادفت استقالة جونسون من منصبه النيابي مع أزمة حادّة تتعرّض لها صحيفة «تلغراف» اليمينية العريقة بسبب مشاكل مالية يعاني منها مالكوها مع البنوك، ما قد يدفع المالكين الجدد - أو الحاليين في حال نجحوا بالحفاظ عليها - إلى استدعاء جونسون لإدارتها بحكم شهرته في أوساط جمهور الصحيفة. ولن يكون ذلك شيئاً جيداً لسوناك عندما يقود الحزب الحاكم في انتخابات 2024 العامة، إذ عادة ما تكون «تلغراف» بمثابة سلاح المدفعية الإعلامية لحملات «المحافظين» الانتخابية.