انتهت الانتخابات الرئاسية والنيابية إلى هزيمة المعارضة التركية: أوّلاً، عبر سقوط مرشّحها للرئاسة كمال كيليتشدار أوغلو؛ وثانياً، من خلال مراوحة «حزب الشعب الجمهوري» مكانه، حيث بالكاد حافظ على أصواته (25%)، على رغم تحالفه مع أربعة أحزاب أخرى صغيرة كان يُفترض أن تزيد من أصواته لا أن تأكل من حصّته. وفي المحصّلة، بات لـ«الجمهوري» 130 نائباً في البرلمان، وللأحزاب الأربعة التي ترشّحت على لوائحه 38 نائباً، توزّعوا على الشكل الآتي: «الديموقراطية والتقدّم» برئاسة علي باباجان (15)؛ «المستقبل» برئاسة أحمد داوود أوغلو (10)؛ «السعادة» برئاسة تيميل قره مللا أوغلو (10)؛ و«الديموقراطي» برئاسة غولتيكين أويصال (3). وأراد «الشعب الجمهوري» من وراء ترشيح هذه الأحزاب على لوائحه، منْحها حيثية برلمانية من جهة، وضمان تأييدها له ولمرشّحه للرئاسة من جهة ثانية. غير أن النسبة التي نالها الحزب ظلّت على الحال الذي كانت عليه في عام 2018، ما قد يعني أن جزءاً من قاعدته الناخبة لم توافق على صيغة التحالف مع الأحزاب الأربعة (كلّها محافظة)، ولم تذهب تالياً للتصويت، أو أن تلك الأحزاب لم تقدّم أيّ إضافة لـ«الجمهوري». هذا الواقع كان يمكن تجاوزه لو أن كيليتشدار أوغلو فاز بالرئاسة. لكن، وبما أن ذلك لم يحدث، فقد بدأت تَخرج إلى العلن أصوات من داخل «الشعب الجمهوري» تطالبه بمراجعة داخلية وبتفسير أسباب الفشل، وفق ما دعاه إليه، مثلاً، رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، الذي شدّد على ضرورة التغيير. والجدير التذكير به، هنا، أن عاملَين اثنين حالا دون ترشُّح إمام أوغلو: الأول، فتْح القضاء في الخريف الفائت ملفّاً قضائيّاً ضدّه بتهمة تحقير «اللجنة العليا للانتخابات» عام 2019، ما أدى إلى إزاحة أحد أبرز المنافسين المحتمَلين للرئيس رجب طيب إردوغان؛ والثاني، أن كيليتشدار أوغلو كان معارِضاً لترشيح إمام أوغلو، لأنه أراد أن يترشّح شخصيّاً، وهو ما تحفّظت عليه زعيمة «الحزب الجيد»، مرال آقشينير. وعلى رغم تكاثر المطالبات بـ«التغيير»، يبدو كيليتشدار أوغلو متمسّكاً بموقعه على رأس الحزب، وفق ما يبيّنه إصراره على عدم التنحّي، ما قد يعني مواصلته قيادة «الشعب الجمهوري» لسنوات أخرى، علماً أنه يرأسه منذ عام 2010. وتجلّى هذا الميل، خصوصاً، في إعادة تشكيل اللجنة المركزية للحزب من فريق موالٍ للمرشّح الرئاسي الخاسر، استعداداً للمؤتمر الحزبي العام الذي لم يتحدَّد موعده بعد، وإنْ كان ثمّة إشاعات تقول إنه سيُعقد قبل نهاية العام الجاري. وفي تعليقه على ذلك، قال النائب عن «الشعب الجمهوري»، أنغين ألتاي: «يجب أن نعرف كيف ننسحب»، في تلميح إلى مطالبته باستقالة كيليتشدار أوغلو. وكان ألتاي امتنع عن الترشّح لترؤّس كتلة الحزب الجديدة في البرلمان؛ إذ رأى أن حزبه «يحتاج إلى نقد ذاتي جدّي»، معتبراً أنه «إذا كنّا خسرنا الانتخابات، فيجب على الرفاق أن يتنحّوا جانباً»، متسائلاً: «هل بهذه اللجنة المركزية الجديدة سنذهب إلى انتخابات بلدية؟».
كذلك، انتقد النائب السابق لرئيس الحزب، يلماز آتيش، كيليتشدار أوغلو، قائلاً إن «فاتورة الهزيمة يجب أن يدفعها الرئيس العام»، وإن «الذهاب إلى انتخابات 2024 البلدية مع كيليتشدار أوغلو يعني هزيمة أكبر». وكانت لمراد قره يالتشين، الرئيس السابق لـ«الحزب الاجتماعي الديموقراطي الاشتراكي»، الذي حَلّ نفسه عام 1995 ليندمج في «الشعب الجمهوري»، أيضاً، مواقف لافتة بخصوص التغيير المطلوب؛ إذ عدّ حصول «الشعب الجمهوري» على 25% من الأصوات بمثابة هزيمة، بل «هزيمة كبيرة ولا يمكن الاستمرار هكذا». وقال قره يالتشين إنه يجب انعقاد مؤتمر عام للحزب قبل الوصول إلى الانتخابات البلدية، مضيفاً: «لقد تقدَّم 4 آلاف عضو في الحزب للترشّح إلى الانتخابات النيابية، وهذا غير مقبول»، داعياً «الشعب الجمهوري» إلى أسلوب تنظيمي جديد. وبحسب قره يالتشين، فإن «كيليتشدار أوغلو شكّل ظاهرة، ونَيْله 48% من الأصوات، و25 مليوناً في الانتخابات الرئاسية، مكسب كبير جدّاً. لكن أن ينال الحزب 25% (في البرلمان)، وأن يقول علي باباجان إن حزبه، الديموقراطية والتقدّم، له 4% من هذه الـ25%، فتلك هزيمة للشعب الجمهوري». كما رأى أن هناك ضرورة لـ«إعادة النظر في بنية الحزب والذهاب إلى الناخب بشعارات الحزب الأصلية لا المساومات. وإذا دعونا إلى التغيير، فيجب أن نحدّد تغيير ماذا».
فقدت الليرة التركية حوالى 20% من قيمتها عندما تراجعت أمام الدولار من 20 إلّا نيفاً إلى ما يلامس الـ23.40 ليرة


وفي الاتجاه نفسه، يرى الكاتب مراد يتكين في استمرار النهج الحالي لـ«حزب الشعب الجمهوري»، «تكراراً للأشياء نفسها مع انتظار نتائج مختلفة، وهذا غير منطقي». وإذ يلفت يتكين إلى أنه بعد هزيمة الـ28 من أيار، «ارتفعت أصوات تطالب باستقالة كيليتشدار أوغلو، بينما تباينت الآراء حول المؤتمر العام للحزب بين قائلٍ بانعقاده الخريف المقبل، ومطالبٍ بعقده بعد الانتخابات البلدية التي ستجري في آذار 2024»، فهو يعتقد أن زعيم «الشعب الجمهوري» بات أمام واحد من خيارَين: إمّا التمثّل بما يجري في الديموقراطيات الغربية والاستقالة فوراً، وإمّا استيعاب الصدمة والتحضير لتجاوزها تمهيداً للاستقالة لاحقاً. والظاهر أن كيليتشدار أوغلو اختار الطريق الثاني، فيما ليس واضحاً ما إذا كان هذا الخيار يعكس أزمة مزمنة داخل حزبه، وخصوصاً أنّ الأخير لم يستطع تخطّي عتبة الـ25%. وفي حوار تلفزيوني هو الأوّل معه منذ انتهاء الانتخابات، قال المرشّح الرئاسي الخاسر إن «أكرم إمام أوغلو يمكن أن يكون مرشّحاً طبيعياً لرئاسة الحزب، ولكن أنا أريد أن أحلّ مشكلة رئاسة بلدية إسطنبول، وألّا أعطيها لحزب العدالة والتنمية»، مضيفاً أن «نقطة ضعف المعارضة كانت في المناطق الريفية، والمال الذي وُزّع على الناس وَجد تأثيره في الريف (...) فيما صوّتت كلّ المدن الكبرى لخيار المعارضة». ورأى أيضاً أن انسحاب آقشينير ومن ثمّ عودتها، «ألقيا ظلالاً من الشكّ على الطاولة السداسية»، كما أن «اتّهامنا بالتعامل مع قنديل أسهم في زيادة التأييد لإردوغان».
في المقابل، ومع انتهاء عمر «تحالف الأمّة» انتخابياً، بدا رئيس «حزب المستقبل»، أحمد داوود أوغلو، أكثر مرونة مع حزبه السابق «العدالة والتنمية»؛ إذ أبدى استعداده لدعم الأخير «عندما يقوم بأعمال جيدة»، معتبراً تعيين محمد شيمشيك وزيراً للمالية «إجراءً سليماً»، علماً أن شيمشيك شغل المنصب نفسه في المرحلة التي كان فيها داوود أوغلو وزيراً للخارجية ومن ثمّ رئيساً للوزراء. وتعليقاً على ما جاء على لسان الأخير، علّق النائب عن «الشعب الجمهوري»، مراد أمير، بأنه «لن يتفاجأ إذا تعاون داوود أوغلو مع السلطة».
في هذا الوقت، أثار الارتفاع الصاروخي في سعر الدولار أمام الليرة دهشة المراقبين؛ إذ فقدت الليرة التركية حوالى 20% من قيمتها عندما تراجعت أمام الدولار من 20 إلّا نيفاً إلى ما يلامس الـ23.40 ليرة. وفيما تنعقد الآمال على تعيين شيمشيك وزيراً للمالية، وحفيظة إركان حاكمة للمصرف المركزي، في ظلّ مطالبة السلطة الجمهور بالتحلّي بالصبر ريثما توضع الخطط اللازمة لمكافحة التدهور الاقتصادي، ذكر نديم توركمان، في صحيفة «سوزجي»، أن تركيا أنفقت، في عام 2022 وحتى موعد الانتخابات الرئاسية، حوالى 177 مليار دولار، بينها 30 ملياراً في شهر نيسان الماضي، من أجل منع تدهور سعر الليرة وتثبيتها عند حدود الـ20 ليرة للدولار الواحد، وهو ما أدّى إلى تراجع كبير في احتياطات «المركزي» من العملة الصعبة إلى 60 مليار دولار. وبحسب توركمان، فإن السلطة لم تكتفِ بتبديد العملة الصعبة، بل إن احتياط الذهب تراجع 50 طنّاً، ما يعني أيضاً بيع جزء من الذهب لدعم الليرة والحملة الانتخابية (بلغ مجموع الإنفاق عليها حوالى 250 مليار دولار)، وبالتالي مزيداً من التضخّم والبطالة والضرائب، في حين تطالب التقارير الدولية برفع سعر الفائدة لمنع ذوبان العملة الصعبة واحتياطات المصرف المركزي، وتسود توقّعات بتراجع نسبة النموّ من 2.9% إلى 2.3%.