أنهى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، زيارتَيه الأوليَين إلى كلّ من قبرص التركية وأذربيجان، جامعاً جناحَي «العالم التركي» شرقاً وغرباً، ومضيفاً إلى الشعار المشهور عن وجود أمّة واحدة في دولتَين (أذربيجان وتركيا) عنصراً ثالثاً هو قبرص التركية، ليصبح الشعار: «أمّة واحدة في ثلاث دول». ورسم إردوغان، في حوار شامل مع الصحافيين المرافقين بعد انتهاء زيارته لأذربيجان، ملامح السياسة الخارجية التركية في ولايته الثالثة، بادئاً من المكان الذي غادره؛ فوعد أوّلاً بتقوية «منظّمة الدول التركية» من خلال مواصلة العمل مع باكو، ومعلِناً أنه سيشارك مبدئياً في قمّة المنظّمة التي ستنعقد قريباً في مدينة تركستان في قازاقستان، ومتحدّثاً عن ضرورة تسريع الخطوات لتطوير عملها.وحول تموضع الجمهورية التركية في الذكرى المئة لتأسيسها، أكد إردوغان أن بلاده لن تكون في محور ضدّ آخر، و«بقدر ما هي قريبة إلى الغرب هي قريبة إلى الشرق»، مجدّداً التشديد على ضرورة تلبية السويد مطالب تركيا بوقف الدعم الكامل لـ«الإرهاب الكردي»، حتى يمكن الموافقة على انضمامها إلى «حلف شمال الأطلسي»، عادّاً التعديلات القانونية في السويد في هذا الإطار «غير كافية». وقال إن شعار تركيا اليوم هو «عدم الإكثار من الأعداء، بل التقليل منهم»، لكن ذلك لم يمنعه من فتح النار على إيران في ما خصّ الوضع في جنوب القوقاز.
وأشار الرئيس التركي إلى أن تقدّم عملية السلام بين أرمينيا وأذربيجان يحقّق فائدة مهمّة لتطبيع العلاقات التركية مع الأولى، معتبراً أن «باباً للسلام فُتح في النهاية في منطقتنا، ونتوقّع ألّا يضيّع أحد هذه الفرصة». ونوّه بـ«إعلان باشينيان نيّته الاعتراف بسيادة باكو على كلّ أراضيها بما فيها قره باغ، مهمّة. ولكنْ هناك موقف مضادّ لباشينيان في أرمينيا، وهذا مهمّ جدّاً جدّاً. وحتى الآن، لم يتراجع عن موقفه». وأكد أن تركيا باتت مستعدّة لفتح قنصلية لها في مدينة شوشه في منطقة قره باغ أواخر العام الجاري، و«سيكون هذا رسالة إلى الجميع، وفي مقدّمهم أرمينيا، بسيادة أذربيجان على كلّ أراضيها». وفي هذا الإطار، رأت صحيفة «حرييات» أن الإعلان المتّصل بالقنصلية استهدف بعث رسائل إلى أرمينيا وروسيا وإيران والدول الغربية، أولاها «إظهار السيادة الأذربيجانية على قره باغ وكامل الأراضي الأذربيجانية؛ وثانيتها إيلاء الأهمّية للخريطة الاقتصادية في جنوب القوقاز وضرورة تنمية شوشه وقره باغ بعد ثلاثين عاماً من الحرب، على اعتبار أن فتح القنصلية التركية يعني تقديم الخدمات للشركات التركية التي ستشارك في تنمية المنطقة؛ وثالثتها ضرورة توقيع اتفاق سلام دائم مع أرمينيا، بما يسهّل حياة الأرمن الذين لا يزالون في قره باغ».
وكان للاتفاق الذي أعقب هزيمة يريفان في الحرب الأذربيجانية - الأرمينية، والذي نصّ على فتح ممرّ لاتشين من أرمينيا إلى قره باغ، وممرّ زنغيزور من نخجوان (التابعة لأذربيجان والواقعة على حدود تركيا) إلى أذربيجان عبر أراضي أرمينيا، صدى كبير أبقى التوتّر في منطقة القوقاز الجنوبية قائماً. ذلك أن هذا الممرّ، في حال تنفيذه، وهو عبارة عن طريقَي إسفلت وسكّة حديد، سيلحق الضرر بالمصالح الاستراتيجية والاقتصادية لإيران؛ إذ سيجعل الشاحنات التركية تتفادى المرور عبر الأراضي الإيرانية، كما أن مروره بمحاذاة الحدود الإيرانية - الأرمينية يقطع الصلة البرّية بين إيران وأرمينيا، فيما الإشراف الروسي عليه سوف يحول دون التواصل المباشر بين القوات الإيرانية والقوات الأرمينية. وترى إيران أن دعوة إردوغان، في أعقاب تلك الحرب، إلى توحيد شقَّي أذربيجان على ضفّتَي نهر آراس، خطوة أخرى في طريق التحريض على موقعها، بينما يضاعف تحويل القيادة الأذربيجانية أراضيها إلى ساحة نشاط للاستخبارات الإسرائيلية، من مخاوف طهران من مجمل الممارسات التركية في القوقاز، وعلى رأسها العمل على فتح ممرّ زنغيزور.
شدّد إردوغان على ضرورة فتح ممرّ زنغيزور بالسرعة اللازمة، لأنه يحقّق مصلحة تركية - أذربيجانية مزدوجة


وفي هذا السياق، شدّد إردوغان على ضرورة فتح الممرّ بالسرعة اللازمة، لأنه يحقّق مصلحة تركية - أذربيجانية مزدوجة، ذاهباً أبعد من ذلك باتّهامه إيران بتسعير المشكلة، عندما قال إن «مسألة فتح ممرّ زنغيزور ليس مشكلة أرمينية، بل هي مسألة مرتبطة بإيران». وأضاف إن «الموقف الإيراني يثير حزننا كما يثير حزن أذربيجان، وهذا يجب أن يثير حزن الإيرانيين أيضاً». ورأى أن «هذا الممرّ يجب أن يكون عامل تكامل بين تركيا وأذربيجان وإيران، ومقدّمة لفتح "خطّ بكين - لندن"»، معتبراً أن «فتحه سيجعل العلاقات بين تركيا ونخجوان وبين تركيا وأذربيجان أكثر قوة. والطريق هو حضارة، وإذا كان عندك طريق فأنت حضاري ويمكن أن تقارب الحضارة». وقال الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، إن «شوشه هي التي وضعت النقطة الأخيرة في حرب قره باغ»، مضيفاً إن «فتح زنغيزور أمر لا مفرّ منه».
إزاء ذلك، يرى برهان الدين دوران، الكاتب المقرّب من إردوغان، والذي رافقه في رحلة قبرص وباكو، أن الرئيس التركي «يلقى دعماً قويا في البلقان والقوقاز وشرق المتوسط، وخصوصاً أن تركيا أظهرت في ظلّ زعامته حضوراً قوياً عبر استخدام القوة في سوريا والعراق وليبيا، وعبر تقديم الدعم الكامل لقطر أثناء تعرّضها للحصار، كما تقديم الدعم لأذربيجان في حرب قره باغ». ويضيف دوران إن «السياسة التي يتّبعها إردوغان اسمها "محور تركيا"، وسوف يكون لوزير الخارجية حاقان فيدان، ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالين، أدوار حسّاسة فيها»، معتبراً أن «هذه السياسة الجديدة التي بدأت في قبرص وأذربيجان، هي مجرّد بداية لمرحلة ستُظهر فيها تركيا حضورها بمواصفات الزعامة في السياسة العالمية».
بدوره، يعتقد عثمان سرت، في صحيفة «قرار»، أن فوز إردوغان بولاية جديدة «سيجعل الغرب يتعاطى بواقعية أكثر معه، ولا سيما الولايات المتحدة التي أوقفت التواصل معه منذ مطلع عام 2021»، معتبراً أن «البحث عن حلول للأزمات الإقليمية من دون التواصل المباشر مع أنقرة لا يبدو منطقياً، فيما الحفاظ على قنوات الاتصال فيه مصلحة للجميع». ويرى سرت أن «الجوّ الجديد بعد الانتخابات التركية لا يعلن عن دخول مرحلة إيجابية بالكامل، لكن يمكن التنبّؤ بأن المرحلة الجديدة ستشهد قابلية أكثر لتحسين العلاقات مع الغرب، والشخص الذي سيؤدّي الدور الأكثر أهمية هو حاقان فيدان، وهذا قد يستدعي كذلك الحديث عن تغيير في بعض العناوين السياسية».
وتلفت صحيفة «يني شفق» الموالية، من جهتها، إلى أن «اتحاد تركيا وأذربيجان يمضي في الاتّجاه الصحيح»، عادّةً إيّاه «قيمة مضافة لاتحاد الدول التركية»، ومعتبرةً أنه «لا ينبغي التقليل من الانتقال المباشر لإردوغان من قبرص إلى باكو، إذ يمكن بالتالي ألّا يكون هناك قلق من التفكير بوحدة البحر المتوسط وبحر قزوين، وهذا سيكون له قيمة مهمّة جدّاً لكلّ من تركمانستان وأوزبكستان وقازاقستان». وتشير الصحيفة إلى أن «الجيوبوليتيك والجيو ثقافة يغذّيان بعضهما البعض»، مُذكّرة بأنه «خلال الانتخابات النيابية، ارتفع كثيراً شعار القرن التركي، وهذا لم يَخرج من فراغ».