موسكو | تبدو روسيا مطمئنّة إلى الوضع العسكري على الجبهة الأوكرانية؛ فبعد مرور أسبوعَين على إطلاق أوكرانيا هجومها المضاد الذي رَصد له الغرب عتاداً عسكريّاً متطوّراً من دبابات «ليوبارد 2» الألمانية، وعربات «برادلي» الأميركية المدرّعة وغيرها الكثير، نجحت موسكو في صدّه في مراحله الأولى، على رغم أنه لا يزال متواصلاً على أكثر من جبهة شرقاً وجنوباً. ويَظهر من خلال التعاطي الروسي مع الهجوم، وخصوصاً في شقّه الإعلامي، أن روسيا أَدركت - وإنْ متأخرةً بعض الشيء - أهميّة الصورة في الحرب النفسية؛ فكان لتوثيق تدمير دبابات «ليوبارد» وعربات «برادلي»، والاستيلاء على معدّات تركها الجنود الأوكرانيون الفارّون، أثراً مهمّاً على أكثر من مستوى. فمن ناحية، استطاعت موسكو تطمين شعبها، وسكّان دونباس وخيرسون وزابوروجيا (التي استولت عليها أو على أجزاء منها)، إلى أنها تدير المعارك بما يضمن مصالحها، وأن لها اليد الطولى في الميدان، فيما كانت رسالتها إلى كييف واضحة لناحية زعزعة ثقة أفراد القوات الأوكرانية بإمكان تحقيق أيّ إنجاز في الهجوم، وإلى «الناتو» لجهة تدمير هيبة فخر الصناعة العسكرية لدوله. ولم تكتفِ روسيا بالبيانات والصور الصادرة عن وزارة دفاعها، بل دخل رئيسها، فلاديمير بوتين، شخصيّاً، على خطّ الهجوم المضاد، بعدما تناول، في أكثر من محطّة، ما يجري في الميدان الأوكراني، لإدراكه مدى تأثير كلماته على جمهوره الذي يثق به وبما يقوله، وفق ما تفيد به مراكز الدراسات التابعة للدولة. وفي هذا الإطار، دأب بوتين على الترويج لكون نتائج الهجوم الأوكراني «كارثية» على القوات الأوكرانية، والتذكير بأن كييف لم تنجح في تحقيق أيّ نجاح ملموس، على رغم وصول قواتها إلى خطّ الدفاع الأول، واستخدامها لذلك الغرض الاحتياطي الاستراتيجي لاختراق الدفاعات. كما دأب على التسويق لكون الجيش الروسي نجح في تدمير أكثر من 30% من العتاد الغربي، قائلاً غير مرّة إن «برادلي وليوبارد تحترقان بشكل جميل كما توقّعنا». وهو ما قابله إقرار صريح من جانب ألمانيا و«الناتو» بتدمير نحو 15% من دبابات «ليوبارد 2» وعربات «برادلي»، وفق ما ذكرت وسائل إعلام غربية. وفي الميدان، كثّفت روسيا ضرباتها الجوّية، مستهدفةً مخازن السلاح الغربية، في إطار سعيها إلى ضرب خطوط الإمداد الأوكرانية للجبهات.
ومع ذلك، تؤكد موسكو، وفق تصريحات بوتين، أن الوضع على الجبهات «صعب، لكنه تحت السيطرة»، وهو ما يطرح علامات استفهام حول جدوى الهجوم الأوكراني المضاد والإصرار عليه، وما إذا كان سيحقّق أيّ تغيير في المشهد الميداني يعزّز من موقف كييف في أيّ مفاوضات مستقبلية. إذ أثبتت مجريات الهجوم، في الأسبوعين الماضيَين، أن الجيش الروسي لا يزال يتحكّم بمسار المعركة، على رغم كلّ الدعم العسكري واللوجستي والاستخباري الذي توفّره دول «الناتو» لقوات كييف. ويضاف إلى ما تقدَّم، تأكيد الرئيس الروسي أن العملية العسكرية مستمرّة حتى تحقيق أهدافها، وأن نزع سلاح أوكرانيا يمضي على قدم وساق، وأنه «لم يبقَ لدى كييف تقريباً أسلحة محلية الصنع، وكل ما تستخدمه من الخارج»، في ما يؤشّر إلى إصرار بلاده على المضيّ في معركتها تلك. وفي المقابل، تواصل القوات الأوكرانية استهداف الأراضي الروسية في بيلغورود، وإرسال المسيّرات إلى موسكو، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية، أمس، وقوع هجوم بالمسيّرات على قاعدة عسكرية في العاصمة، ما حدا بوزير الدفاع، سيرغي شويغو، إلى تحذير كييف من أن موسكو ستستهدف بردّ فوري مراكز القرار الأوكرانية، في حال نفّذت الأخيرة تهديداتها واستهدفت أراضي شبه جزيرة القرم بصواريخ بعيدة المدى من نوع «هيمارس» الأميركية و«ستورم شادو» البريطانية.
في رأي المحلّلين الروس، فإن الهجوم الأوكراني المضاد مصيره الفشل؛ ذلك أن موسكو استعدّت له جيداً، فيما تبدو متحكّمة بالميدان بشكل أفضل، خاصّة وأنها تتفوّق عديداً وعتاداً. ووفق الخبير العسكري، فلاديسلاف شوريغين، فإن الهجوم الحالي اصطدم بعوامل عدّة: الأول، أن «الجيش الروسي مختلف نوعياً (عمّا توقّعوه). فأوكرانيا تواجه دفاعاً جيّد الإعداد»؛ الثاني، أن «القوات الأوكرانية ليست مدرّبة بشكل كاف. وعلى رغم أن التجنيد في الجيش مستمرّ، حيث جُنّد ما يقرب من 200 ألف فرد، منذ بداية 2023، إلّا أنه، وفي غضون ثلاثة إلى أربعة أشهر، من المستحيل ببساطة تحويل المجنّدين إلى مقاتلين ذوي خبرة»؛ والثالث، يتمثّل في وجود مشكلة جدّية للغاية، في كوادر القيادة، إذ يوضح شوريغين، في هذا السياق، أن «أوكرانيا فقدت أكثر من نصف ضباطها في عام واحد، وعلى المستوى الأدنى ما يقرب من 70% منهم، أي من مستوى قادة الفصائل والسرايا والكتائب. وقد بدأ يَظهر الآن تأثير ذلك عليهم بشكل مأساوي».