وأخيراً، بدأت أوكرانيا هجومها المضاد على أكثر من خطّ على طول الجبهة، ما يكسر حالة المراوحة التي طال أمدها، ويطوي صفحة التكهّنات في شأن الموعد المنتظَر. هجومٌ يرمي، من جملة ما يرمي إليه، إلى إلحاق أكبر قدْر من الخسائر بالقوات الروسية، بهدف إشغالها عن المبادرة، وتوهين الحالة المعنوية لجنودها، إضافة إلى تحقيق اختراقات ميدانية ملموسة ضدّ «الغزاة»، سواء في المعارك المحتدمة على جبهات الشرق في «جمهوريتَي» دونباس: لوغانسك ودونيتسك، أو جبهات الجنوب، وخصوصاً على الضفّة اليسرى لنهر دنيبرو قرب مدينة خيرسون، التي استعادت القوات الأوكرانية قسماً كبيراً منها أواخر العام الفائت، أو في اتّجاه محور مدينة زابوروجيا، التي تضمّ إحدى أهمّ محطّات الطاقة النووية، والواقعة على حدود الشريط الساحلي لأوكرانيا، على بحر آزوف، المتفرّع من البحر الأسود.في الواقع، تبدو خيرسون إحدى النقاط التي قد تشهد تغيّرات في خريطة السيطرة الميدانية، ولا سيما أن موعد الهجوم عليها جاء بعد أيام قليلة من تعرّض سدّ «نوفا كاخوفا» في المدينة لهجوم تخريبي، تبادل طرفا النزاع الاتهامات في شأن المسؤولية عنه. وفيما يتسلّح البعض بفرضيّة تذهب إلى أن التفجير قضى على آمال كييف بإرسال تعزيزات عسكرية ثقيلة عبر خطوط الجبهة هناك، ما يعني عمليّاً تراجع فرص شنّ الهجوم المضاد ضدّ القوات الروسية المتمركزة على الضفة اليسرى لنهر دنيبرو، وفق تلك الرواية، وذلك كشكل من أشكال توجيه اللوم إلى موسكو بالوقوف خلف واقعة التفجير، يروّج آخرون لفرضية مضادّة مفادها بأن الفيضان الناجم عن التفجير تسبّب بخلخلة التحصينات وحدوث انجرافات على مستوى خطوط الدفاع التي أنشأتها روسيا خلال الأشهر الماضية بمحاذاة النهر، ما يرجّح فرضية وقوف كييف خلف تخريب السدّ. وبالفعل، تقرّ مصادر عسكرية أوكرانية، عقب التفجير، بأنّ ثمّة إمكانية متاحة لشنّ هجوم محدود على تلك الجبهة باستخدام الزوارق السريعة.
أمّا جبهة زابوروجيا، فتشهد زيادة ملحوظة في نشاط سلاح الجوّ الروسي على عدد من المحاور، كمحور تارنيسكفا، إلى الجنوب الشرقي، وخاصّة لناحية توظيف سلاح المروحيات الهجومية، من طراز «ka-52» التي يُنسب إليها الفضل في وقوع «مجزرة» دبابات «ليوبارد» الألمانية الصنع، وعربات «برادلي» الأميركية الصنع، التابعة لـ«اللواء 47» الأوكراني المزوّد بأحدث الأسلحة الغربية (وهو ضمن أفضل لواءَي مدرعات بحوزة كييف) على الجبهة ذاتها، وذلك على رغم مواصلة الولايات المتحدة وحلفائها تزويد كييف بمنظومات دفاع جوي، على غرار «باتريوت» الأميركي (الذي دمّرت موسكو إحدى منظوماته قبل أسابيع)، لتنضمّ إلى ما لديها من دفاعات معظمها روسي الصنع، كـ«بانتسير» و«إس-300». وفي هذا الإطار، تنقل مجلّة «ذي إيكونومِست» عن مصدر عسكري أوكراني، قوله إن القتال على امتداد محور أوريخيف - توكماك في جبهة زابوروجيا، خلال الأيام القليلة الماضية، «كان صعباً»، وأن قوات بلاده تكبّدت خسائر فادحة في الأفراد والمدرّعات.
بالنسبة إلى جبهات الشرق في إقليم دونباس، يَكثر الحديث عن تسيُّد «حرب المسيّرات» المشهد، وخاصّة مسيّرات «لانسيت» الروسية المعروفة بـ«صائد المدرعات»، وهي مخصّصة لأغراض هجومية، كتدمير الدبابات، وبطاريات المدفعية. ومع بدئها «هجوم الربيع» المنتظَر، كانت كييف تشيع أنباء عن سيطرتها على 4 بلدات صغيرة، من بينها مكاروفكا، وستوروغوف، الواقعة إلى الجنوب من إقليم دونيتسك، المنضمّ حديثاً إلى روسيا. وضمن جبهات القطاعَين الشمالي والشرقي من الإقليم، وتحديداً في مدينة باخموت، بدا لافتاً حرص أوكرانيا على استعادة هذه الأخيرة، أو أجزاء منها، كنصر معنوي ضدّ روسيا، وهو ما يفسّر إعلان حكومة فولوديمير زيلينسكي، منذ الأيام الأولى للهجوم المضاد، سيطرة قواتها على بلدة بلاغودتني، على محور باخموت - سوليدار، والذي شكّك فيه البعض، ووضعه في خانة الترتيب المُعَدّ سلفاً قبل وقوع الهجوم، وذلك بغية رفع معنويات العناصر المسلّحة الأوكرانية. وخلال الساعات الماضية، أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية أن عدد البلدات التي استعادتها منذ بدء الهجوم وصل إلى 8 بلدات، في وقت انتشر فيه مقطع مصوّر يعلن فيه جنود أوكرانيون سيطرتهم على بلدة بياتيخاتكي الواقعة شمال غرب زابوروجيا. وبحسب الوزارة، فقد بلغ عمق تقدُّم قواتها على الجبهة الجنوبية، وتحديداً في تافويا، منذ مطلع الشهر الجاري، نحو 7 كيلومترات، فيما لم يتجاوز الكيلومترَين على جبهة باخموت الشمالية. ويرى خبراء عسكريون أن «الإنجازات» الميدانية التي تحرزها قوات كييف لا ترقى إلى طموحات حكومة زيلنيسكي وحلفائها الغربيين. فالنقاط ذات الأهمية الاستراتيجية، والمدن الكبرى على جبهة زابوروجيا كتوكماك، لا تزال على بعد 40 كيلومتراً من خطوط المواجهة الأمامية الروسية - الأوكرانية، الممتدّة على طول يُقدَّر بنحو ألف كيلومتر، فيما تبعد منطقتا ميليتوبول وبرديانسك في الجبهة الجنوبية، نحو 65 كيلومتراً و100 كيلومتر على التوالي، عن تلك الخطوط، على رغم تأكيد نائبة وزير الدفاع الأوكرانية، غانا ماليار، استعادة مناطق تزيد مساحتها على 100 كيلومتر خلال أسبوعين من العمليات الهجومية في اتّجاه المدينتَين. في المقابل، أعلنت وزارة الدفاع الروسية، قبل ساعات، تقدُّمها على جبهة إقليم دونيتسك، وسيطرتها على مدينة نوفودونيتسك، الواصلة بين الإقليم وزابوروجيا.
الخطاب المعلَن للغرب يميل إلى الانحياز التامّ لطموحات كييف إلى «التحرير الكامل»


مع ذلك، لا يبدو واضحاً ما إذا كانت العمليات العسكرية الجارية تشكّل بدايةً فعلية للهجوم المضاد، أو أنها لا تعدو كونها مجرّد تحرّكات ميدانية تمهيدية سيكون لها ما يليها من توسُّع عملياتي أكبر. ووفق محلّلين عسكريين، فإن خطط القوات التابعة لكييف، والتي تسود تقديرات بحشدها ما لا يقلّ عن عشر فرق لإطلاق عمليتها العسكرية الواسعة، لم تتبلور بعد بصورة تامّة. وفي هذا الصدد، ينبّه مصدر في وزارة الدفاع الأوكرانية إلى محاذير التسرّع في شنّ الهجوم، قائلاً: «(إنّنا) لم نرسل إجمالي التشكيلات الأساسية من قواتنا المرصودة للهجوم (إلى الجبهات)، وهو الأمر الذي بادر إليه الروس بدورهم». ويشرح أن الوضع على الجبهات هو أشبه برقعة شطرنج، حيث يجهد كلّ طرف من أطراف الصراع إلى سحب أحجار الطرف الآخر. أيضاً، يعتقد وزير الدفاع الأوكراني السابق، أندريه زاغورودنيوك، أن القادة العسكريين الأوكرانيين يتعمّدون إبقاء الأمور غامضة وضبابية، موضحاً أن مقاربتهم إزاء المراحل الأولى من الهجوم المضاد ربّما تكون مشتّتة (حيال الجبهة التي يجب التركيز عليها)، أو يشوبها جانب من الانتهازية وتحيّن الفرص (ربطاً بأخطاء الخصم)، وبخاصّة في حال أخطأت موسكو في تقدير نوايا قوات زيلينسكي وخططها، أو أساءت توزيع قواتها في الميدان. وفي الاتجاه نفسه، يرى الضابط السابق في الاستخبارات البريطانية، فيليب إنغرام، أنّ «المكاسب الميدانية المعلَن عنها من الجانب الأوكراني تُعدّ مشجّعة لناحية استكشاف سبل الهجوم الأكثر نجاعة، ومحاولة إحداث ثغرات (في دفاعات الروس)». ويتوقّع إنغرام أن تبادر قوات كييف إلى «الزجّ بتشكيلات عسكرية كبيرة بهدف شنّ هجوم واسع على طول المحور الرئيس للعمليات، فور تمكّنها من اختراق أولى خطوط الدفاع الروسية». ويردف: «حتى ذلك الحين، سيستمرّ الأوكرانيون في ممارسة الضغط العسكري على نقاط تموضع القوات الروسية، بصورة تجعل الأخيرة في حالة من الترقّب المستمرّ لموعد الهجوم العتيد ومكانه».
وبصرف النظر عن التكهّنات، فإن الثابت هو أن الهجوم الأوكراني يمثّل حاجة لواشنطن وبروكسل، وليس فقط لكييف، ولا سيما أن عامل الوقت بات عنصراً ضاغطاً على الحسابات السياسية لتلك العواصم التي تتمسّك بكسب معركة الرأي العام داخلها في استحقاقات انتخابية مرتقبة، وفي طليعتها السباق الرئاسي الأميركي لعام 2024، بقدْر تمسّكها في الوقت نفسه بتحقيق مكاسب ميدانية على ساحة الحرب في أوكرانيا. فالهجوم الأوكراني المضاد، في حال نجاحه ولو بصورة جزئية، سيفتح الباب أمام الترويج لنجاح استراتيجية الغرب في تحويل أوكرانيا إلى مثال عسكري نموذجي في مواجهة «النزعة التوسعيّة» الروسية، بحيث يكون قابلاً للإسقاط على سيناريوات اشتباك محتملة مع خصوم دوليّين آخرين، وعلى رأسهم الصين. كما أنه سيوفّر الأرضية المناسبة لإقناع الجماهير الغربية بمدى صوابية أو أحقيّة إعطاء كييف ضمانات أمنية، سواء من جانب الغرب، أو من جانب روسيا في أيّ تسوية مستقبلية.
في هذا الجانب، يلاحَظ أن الخطاب المعلَن للغرب يميل إلى الانحياز التامّ لطموحات كييف إلى «التحرير الكامل»، بدءاً من استعادة أراض من القوات الروسية في إقليم دونباس، على غرار استعادة خيرسون، وخاركيف منذ نحو عام، علاوة على أولوية دحْرها في الوقت الراهن من السواحل الجنوبية الشرقية لبحر آزوف، وخاصّة زابوروجيا، باعتبار تلك السواحل نقطة الاتصال البري الوحيدة بين شبه جزيرة القرم، والأراضي الروسية، تمهيداً لوضع المنطقة التي ضمّتها روسيا، عام 2014، ضمن مرمى مدفعية قوات زيلينسكي وصواريخها، فضلاً عن إلحاق خسائر فادحة بموسكو، في الأرواح والعتاد، على نحو قد يجبر الرئيس فلاديمير بوتين على إعادة حساباته. لكن في الكواليس، تبدو التباينات بين زيلينسكي وحلفائه الأميركيين والأوروبيين أكثر وضوحاً؛ ذلك أن هؤلاء يشكّكون في مدى واقعية ما ترمي إليه كييف، انطلاقاً من اعتبارات تتعلّق بتفوّق موسكو على أكثر من صعيد. وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن الغرب يمنّي النفس، ضمن سقف الحدّ الأدنى، بنجاح أوكرانيا في استعادة بعض المناطق الريفية، أو بعض البلدات والحواضر المدينية المتوسطة الحجم، أو حتى السيطرة على بقع جغرافية محدودة على سواحل بحر آزوف. وإذا كان الغرب على يقين تامّ باستحالة هزيمة موسكو، المتفوّقة عديداً وعتاداً، فإن منْع انتصارها يُعدّ هدفاً له في ذاته، إضافة إلى إيلائه أهميّة قصوى لتمكين كييف من الاحتفاظ بالمناطق التي سبق لها أن استعادتها.
في المقابل، وإزاء هذا «الحشد الكوني» ضدّ موسكو، فإن الأخيرة «عقلنت» حسابات «الحقل الأوكراني»، بحيث لم يَعُد تركيزها ربّما منصبّاً على إسقاط نظام كييف، أقلّه في المدى المنظور، بقدْر اهتمامها بتدعيم عوامل صمودها في الحرب، التي تأخذ، يوماً بعد يوم، شكل حرب بين روسيا والغرب، الذي تسود دوائره السياسية والعسكرية، للمفارقة، مخاوف حقيقة من سيناريو «اليوم التالي» لهزيمة محتملة لموسكو، قد تدفع بوتين إلى تصعيد حملته ضدّ كييف، أو تشجّعه على الركون إلى «الخيار النووي»، وهو ما لمّحت إليه الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أخيراً. وبحسب مصادر استخبارية، فقد واجهت القوات الأوكرانية صعوبات ميدانية جمّة، بالنظر إلى نقاط تفوّق روسيا تقليدياً، سواء في مجال بناء التحصينات، ووسائط الحرب الإلكترونية، أو على مستوى سلاحَي الجو والمدفعية. كما أن الروس أبلوا بلاءً حسناً في «التكتيكات الدفاعية» داخل المناطق الأوكرانية التي سيطروا عليها، ذلك أن ظروف الميدان غالباً ما ترجّح كفّة الطرف «المدافع» في ساحة المعركة، انطلاقاً من بديهيات العلوم العسكرية. ومع توقّع هطول الأمطار على مدى أيام، فإن تلك العوامل سوف تفضي إلى تحييد مؤقت لعنصر التفوق الجوّي (نظرياً) لروسيا، وأيضاً إلى عرقلة تطلُّع القوات البرية الأوكرانية إلى تحقيق تقدُّم إضافي ملموس على الأرض.