ما إن توالت الأنباء عن حالة التمرّد التي بدأها قائد قوات «فاغنر»، يفغيني بريغوجين، ضد القيادة الروسية، حتى سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى إجراء «تقدير وضع» مع المنظومتين الأمنية والسياسية، لاستشراف مآلات هذا المتغير الجوهري وتداعياته، وبلورة استراتيجية إسرائيلية لتحديد كيفية التعامل معه. مع ذلك، فقد تجنبت قيادة العدو إطلاق مواقف متسرعة، فيما قلصت سرعة الأحداث ابتداءً وانتهاءً من هامش تورطها في مواقف كانت ستندم عليها. ولذا، اتّسم الأداء الرسمي بالحذر الشديد، تجنباً «للدوس على قدم الدب الروسي» الذي تدرك القيادة الإسرائيلية دقة المعادلة التي تحكم العلاقة معه، وتحديداً في الساحة السورية.لكن حجم الحدث وتداعياته وصلته المباشرة بمصالح إسرائيل في المنطقة والعالم، فرض عليها عدم انتظار جلاء ما سيؤول إليه، فبرزت المواكبة والاهتمام الرسميان بعناوينه المتعددة منذ اللحظة الأولى. ولعل منشأ هذا الاهتمام، أن كل سيناريو يمكن أن تسلكه التطورات الداخلية الروسية ستترتّب عليه متغيرات دولية ستنسحب تداعياتها على البيئة الإقليمية لإسرائيل، حيث للعلاقة مع الجانب الروسي تأثير مباشر على مصالحها. ولذلك، احتلّ الحدث الروسي، أيضاً، حيّزاً مهماً في وسائل الإعلام الإسرائيلية وفي أوساط الخبراء، في وقت سُجلت فيه اتصالات من قبل العديد من الدول مع إسرائيل، بهدف التشاور وتبادل المعلومات والتقديرات، وإن حرصت تل أبيب، كعادتها في مثل هذه المحطات، على المبالغة في دور استخباراتها. فقد علّلت «القناة الـ 12»، تلك الاتصالات، بأن «الاستخبارات الإسرائيلية تعرف أكثر مما نعرفه نحن الآن»، مع أن المفروض أن استخبارات حلف «الناتو» هي الأكثر اهتماماً ومعرفة بما يجري في الداخل الروسي، وخاصة أن «كل أجهزة الاستخبارات في العالم تتطلّع إلى أمر واحد، وهو حركة السلاح النووي في أرجاء روسيا وما الذي ينوي الروس فعله».
على أيّ حال، يجدر التذكير بأن من الخطأ استشراف الموقف الإسرائيلي من روسيا في ظل قيادة فلاديمير بوتين، من زاوية العلاقات الثنائية المباشرة حصراً؛ فلا القيادة الروسية الحالية ترى في إسرائيل عدواً، ولا الأخيرة ترى في الأولى عدواً، بل تجمع بينهما مساحة من المصالح المشتركة. ومع ذلك، فإن تحالفات وعلاقات موسكو مع أعداء تل أبيب، ووجود تقاطع مصالح واسع بينهم تَعزّز في الفترة الأخيرة، وسّع في المقابل نطاق تضارب المصالح مع إسرائيل، وتحديداً في ما يتعلّق بتعزيز العلاقات مع إيران. أيضاً، فإن تموضع تل أبيب الطبيعي ضمن المعسكر الغربي الذي يخوض حرباً مع موسكو، وصراعاً مع بكين، يضعها على مسار مضاد في بعض محطاته على الأقل، لروسيا.
وتتعدد الساحات والمجالات التي يمكن أن يكون للتطورات في الساحة الروسية تأثير مباشر عليها في ما يتصل بالمصالح الإسرائيلية. وبحسب ما قاله رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء عاموس يادلين، قبل انتهاء محاولة التمرد، فإن الأحداث في روسيا يمكن أن تنتج منها «فرص وتهديدات»، منها ما يتصل بحرية عمل إسرائيل في الساحة السورية، وأخرى تتصل بالانتشار النووي، ووصول العلوم إلى إيران، حيث تسود خشية كبيرة جداً من التعاون مع الأخيرة في هذا المجال. على أن دوائر التأثير قد تتجاوز ذلك، انطلاقاً من أن مآلات الوضع الروسي الداخلي ستؤثر بشكل مباشر على المعادلة الدولية التي ستُحدِّد مستقبل النظام الدولي القائم على الهيمنة الأحادية، والذي تمتعت بمزاياه إسرائيل خلال العقود الثلاثة السابقة، فيما قيام نظام قائم على تعدد الأقطاب أمر يصبّ في مصلحة أعداء تل أبيب، كونه يمنح هامشاً أوسع من تقاطع المصالح مع الدول العظمى، بما فيها روسيا، في مواجهة الهيمنة الأميركية. ولذا، يُشكِّل تماسك روسيا دولة ونظاماً، وقوتها وصمودها في مواجهة الهجمة الأميركية والأطلسية، محدّداً رئيساً في بلورة معالم البيئة الإقليمية لإسرائيل أيضاً، في هذا الاتجاه أو ذاك.
في الخلاصة، يبدو أن قادة العدو شعروا بقدر من الارتياح، كونهم لم يتسرّعوا في مواقفهم التي لم تحجب، على تواضعها، آمالهم ومخاوفهم في هذا المجال. فقد اعتبر عضو المجلس الوزاري المصغر وأحد المرشحين لخلافة نتنياهو في قيادة حزب «الليكود»، إسرائيل كاتس، أنه «بالنسبة إلينا كان من المهم عدم التورط في الحدث الروسي الداخلي، وكما ترون انتهى بطريقة أو بأخرى. بدأ بشكل مفاجئ وانتهى بشكل مفاجئ. من المهم جداً ألا تنجرّ إسرائيل التي لها مصالحها إلى أمور لا داعي لها يمكن أن تؤثر علينا في المنطقة وعلى اليهود».