بعد وفاة الشاب نائل برصاصة في الرأس أطلقها شرطيّ من مسافة قريبة، بذريعة عدم امتثال الشاب البالغ من العمر 17 عاماً لأمر بالتوقف خلال عملية تدقيق مروري في ضاحية نانتير غربيّ باريس، وما أشعلته هذه الحادثة من احتجاجات وأعمال شغب واسعة النطاق، شهدت مشاركة واسعة جداً لشبّان تقلّ أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً، عاد النقاش حول تعديل قانون حصل في عام 2017، وما أنتجه هذا الأخير من زيادة في عنف الشرطة، جنباً إلى جنب مع ازدياد اللامساواة بين المدن والضواحي الفرنسية، إلى الواجهة بقوة. في عام 2017، عمدت السلطات الفرنسية إلى «تخفيف» الشروط التي يمكن بموجبها لقوات حفظ الأمن استخدام سلاحها، فبات يُسمح للعناصر بإطلاق النار عندما يكون «من المرجّح أن يرتكب ركاب السيارة، أثناء هربهم، هجمات تهدّد حياتهم أو سلامتهم الجسدية أو سلامة الآخرين». وكنتيجة لهذا التعديل، الذي وصفه العديد من الخبراء القانونيين بالـ«غامض جداً»، شهد عام 2022 في فرنسا رقماً قياسياً من حالات الوفاة - 13 حالة -، جراء إطلاق الشرطة النار على سائقين رفضوا الامتثال لعمليات التفتيش على جانب الطرقات. وفي مقابلة أجرتها صحيفة «Le Temps» السويسرية، التي تصدر باللغة الفرنسية، مع العالم السياسي المتخصص في قضايا الشرطة، والأستاذ في جامعة العلوم السياسية في غرونوبل، سيباستيان روشيه، أشار الأخير إلى أنّه بعد دراسة علمية للأرقام قبل وبعد خمس سنوات من تشريع عام 2017، وتفحّص كيفية تطور ممارسات الشرطة، أظهرت النتائج أنّ عدد الطلقات المميتة الموجّهة إلى السيارات المتحرّكة زاد خمسة أضعاف منذ عام 2017، مضيفاً أنّ مثل هذا التعديل منح الشرطة حرية أوسع لإطلاق النار، حتى خارج إطار الدفاع عن النفس، من دون أن يقترن هكذا «تغيير تنظيمي تاريخي» بجهد لتدريب قوات حفظ الأمن على كيفية التصرف.
من المظاهر التي لفتت الأنظار، مشاركة عدد كبير من القاصرين في الاحتجاجات وأعمال العنف في المدن


ورأى روشيه، في المقابلة، أنّ أعداد «رفض الامثتال للتوقف» التي يتم الحديث عنها مبالغ فيها، ولو أنّها ارتفعت، معتبراً أنّها واحد من أسباب ارتفاع حالات إطلاق النار، لا السبب الرئيس. ولتدعيم فكرته، استشهد العالِم بالأرقام التي تفيد بأن الشرطة الوطنية هي التي ارتكبت جرائم القتل هذه، لا قوات الدرك، بالرغم من أنّ حالات رفض الامتثال موزعة بالتساوي بين الاثنتين. ومن أسباب ذلك، بحسب روشيه، الإشراف المحلي الأضعف على الشرطة، و«خاصة في منطقة باريس التي يرغب جميع ضباط الشرطة في مغادرتها». وفي محاولة لتوصيف القتل الذي بات «ممنهجاً» ومن «الخصائص» الفرنسية، لفت روشيه إلى أنه في ألمانيا، كان هناك إطلاق نار مميت واحد خلال عشر سنوات بتهمة «رفض الامتثال»، مقابل 16 في فرنسا خلال عام ونصف عام، مستخلصاً أنّ «نموذج الشرطة» في فرنسا عدواني إلى حدّ ما وبشكل مخيف، أكثر من البلدان الأوروبية الأخرى، إنّما أقلّ منه في الولايات المتّحدة.

الضواحي «المهمّشة»
وفي حديث إلى بعض الإذاعات الفرنسية، شبّه بعض الناشطين ما يحدث حالياً بالانتفاصات السابقة التي شهدتها الضواحي الفرنسية، مؤكدين أنّه تم تهميش هذه الضواحي لفترة طويلة، وأنّ جميع المبادرات حسنة النية في الأحياء وتقتصر غالباً على الجمعيات، التي لا تقدّم الدعم الكافي الذي تحتاج إليه هذه الضواحي. ويرى مراقبون أنّ مثل هذه الانتفاضات في الأحياء الشعبية تقلق الطبقة السياسية، وتوضح بشكل أكبر التعقيدات التي تحول دون دمج تلك الأحياء مع المدينة، وفشل جميع المبادرات في الحدّ من «الشرخ» بين المركز والضواحي على أرض الواقع.

مشاركة «القاصرين»
ومن المظاهر التي لفتت الأنظار خلال الاضطرابات الأخيرة، مشاركة عدد كبير من القاصرين في الاحتجاجات وأعمال العنف في المدن. إذ قدرت صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية عدد هؤلاء بـ«ثلث المشاركين في أعمال العنف»، لافتةً إلى أن وزارة العدل الفرنسية أطلقت تعميماً، الجمعة، يتضمّن جزءاً من هذه الفئة تحديداً. كما دعّم تقرير في صحيفة «لو موند» الفرنسية تلك المعلومات، مشيراً إلى أنّ ثلث الأشخاص المعتقلين، والبالغ عددهم ألفَي شخص منذ بداية الاضطرابات، تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً، حتى إن بعضهم يبلغ 12 عاماً.
في السياق، يقول المؤرخ تيبو تيلييه، الخبير في الضواحي الفرنسية، إنّه منذ أواخر السبعينيات، كانت أعمال الشغب الحضرية تتكوّن بشكل أساسي من الشباب، مشيراً إلى أنّ ما «يذهله هو العنف الشديد لهذه العصابات الحضرية التي باتت أكثر تنظيماً».
وفي مقابلة أجرتها «لو موند» مع معلمين من مدارس في الضواحي الفرنسية، قال هؤلاء إنّهم «يدربون الطلاب على المواطنة، التي غالباً ما لا يلمسونها في ما بعد»، معربين عن حزنهم لأنّ «عدداً كبيراً من مثيري الشغب هم من أعمار طلابهم»، مشيرين إلى «الشعور بالغضب واليأس في أواسط الطلاب الحاليين والسابقين تجاه ممارسات الشرطة».