أَطلق مسار الأحداث الأخيرة في روسيا، سيلاً من التكهّنات المتضاربة، بين فريق لا يزال يصرّ على اعتبار ما جرى «مسرحيّة» أَعدّ لها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ولا سيما أنها لم تتمخضّ عن نهاية غير متوقّعة للبطل؛ وآخر يهمس بوجود عناصر داخلية للحدث، تقاطعت مصالحها في لحظة سياسية معيّنة مع مصالح خارجية. وإذا كانت الساعات الأولى رجحت كفّة الفريق الأول، فإن الأيام الماضية فرضت إعادة النظر في أسس الرواية وانعكاساتها على روسيا، إضافة إلى إعادة تقييم أدوار أبطالها جميعاً، ولا سيما قائد مجموعة «فاغنر» يفغيني بريغوجين، ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الذي شكّل مطلب إقالته أحد أسباب «التمرّد» الأخير.
«فاغنر» بين تحدّي التدجين وإعادة الهيكلة؟
بالنظر إلى أن ظاهرة انتشار الشركات الأمنية الخاصة في أكثر من بلد، باتت تثير أسئلة تتجاوز حدود روسيا، سواءً لناحية ضيق أو سعة الهامش الممنوح لها للقيام بمهامّ عسكرية، أو لناحية مدى انسجام تلك المهامّ مع القوانين المحلّية لدول النشأة، أصبح التداول العلني بهذا النوع من الأسئلة أمراً شائعاً في موسكو، وخصوصاً عقب البلبلة التي أحدثتها التحرّكات الأخيرة لشركة «فاغنر». ولعلّ جزءاً من النقاش المحتدم في شأن مصير الشركة، يتعلّق بالانقسامات في أوساط النخبة السياسية الحاكمة في روسيا؛ ففي حين أعرب رئيس لجنة الدفاع في مجلس «الدوما»، أندريه كارتابولوف، عن تأييده إقرار قانون ينظّم عمل الشركات الأمنية الخاصة، لدواعٍ مرتبطة بتعارُض مفهوم خصخصة العمل الأمني مع التقاليد العسكرية والثقافة السياسية السائدة في البلاد، اعتبر رئيس «لجنة القانون الدستوري وبناء الدولة» في مجلس الشيوخ، أندريه كليشاس، أن إقرار هكذا قانون ليس أمراً ملحّاً في الوقت الراهن. وفي خضمّ هذا الجدل، يَجزم خبراء عسكريون روس بأن موسكو ليست اليوم في وارد السماح بولادة كيان عسكري آخر مشابه لـ«فاغنر» التي حظيت برعاية خاصة من وزارة الدفاع ومؤسّسة الرئاسة على مدى سنوات، مرجّحين أن يلجأ بوتين إلى حصْر عمل مقاتلي المجموعة في إطار وزارة الدفاع، بصورة تُجنّبه تقنين عمل التشكيلات العسكرية غير النظامية أو شبه الرسمية، ذات المنشأ الروسي.
تأسيساً على ذلك، يمكن التوقّف عند بنود «الاتفاق الغامض» الذي توسّطت فيه بيلاروسيا، والتي شملت إفساح المجال أمام عناصر «فاغنر» ممّن شاركوا في التمرّد للعودة إلى حياتهم المدنية، أو حتى مرافقة بريغوجين إلى بيلاروسيا. ويعني ما تَقدّم واحداً من سيناريوَين: أوّلهما: توجُّه بوتين إلى لجم نشاط العناصر المشكوك في ولائهم ضمن المجموعة، كخطوة أولى نحو التخلّص منهم بصورة نهائية سواءً داخل روسيا أو خارجها؛ وثانيهما: تدجين «فاغنر» عبر الإبقاء على دورها بخاصة في مسارح الحروب الخارجية، مع العمل على تعديل هيكليّتها الهرمية، واستبدال قياداتها بأخرى تشكّل مصدر ثقة للكرملين. ويبدو هذا السيناريو الأخير مرجَّحاً، أقلّه على المدى القصير، في ظلّ صعوبة تحقُّق الأوّل، وهو ما أنبأ به إعلان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن «فاغنر» ستواصل عملياتها في الخارج، ولا سيما في عدد من بلدان القارة الأفريقية، كمالي وجمهورية أفريقيا الوسطى.
تسود حالة من الترقّب والضبابية في شأن النوايا الحقيقية للكرملين


وفي هذا الإطار، يرى الباحث في «معهد أبحاث السياسة الخارجية» الأميركي، روب لي، «(أنّنا) قد نلمس أكبر تأثيرات هذا الحدث في الشرق الأوسط، وأفريقيا»، في إشارة إلى ساحات سوريا وليبيا والسودان. ففي ليبيا، تساند «فاغنر» قوات خليفة حفتر، المدعوم من موسكو، منذ عام 2019، من خلال تواجدها في عدد من القواعد العسكرية، وأشهرها «قاعدة الجفرة» الجوّية جنوب طرابلس. واللافت ورود أنباء، أخيراً، عن تعرّض عناصر من المجموعة داخل «قاعدة الخروبة» الجوّية، على بعد 150 كيلومتراً جنوب شرق بنغازي شرق البلاد (الخاضع لسيطرة قوات حفتر)، للاستهداف عن طريق طائرات مسيّرة مجهولة. أمّا في سوريا، فقد تركّز عمل عناصر «فاغنر» المتمركزين في عدد من المناطق، كمحافظتَي حماة واللاذقية، على المشاركة في العمليات العسكرية كقوات خاصة في أوج الحرب على «داعش»، وبصورة خاصة إبّان معارك تدمر، إضافة إلى اضطلاعهم بمهامّ ميدانية بالقرب من آبار النفط. والواقع أن الميدان السوري كشف عن «مشاكسات» مبكرة بين بريغوجين، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، حين حاول مقاتلو الأول مهاجمة أحد حقول النفط الخاضعة لسيطرة «قسد» في محافظة دير الزور، وهو هجوم أجهضه سلاح الجو الأميركي، وكاد يتسبّب بأزمة ديبلوماسية بين روسيا والولايات المتحدة. يروي بريغوجين نفسه تفاصيل الخطّة تلك، والتي كانت مقرّرة لاستعادة حقول «العمر»، و«شاعر»، و«حيان»، بالتنسيق مع دمشق وموسكو، كاشفاً أن إخفاق الهجوم يعود إلى تراجع وزارة الدفاع عن تعهّداتها يدعم تنفيذ الخطّة عبر تأمين حماية جوية لقواته، وذلك على خلفية التوصّل إلى تفاهمات بين الروس والأميركيين. وليس بعيداً من هذا السياق، ما تمّ تداوله بعد «انقلاب بريغوجين»، حول تنفيذ الشرطة العسكرية الروسية، بالتنسيق مع الحكومة السورية، حملة اعتقالات واسعة ضدّ قادة وعناصر المجموعة العاملين على الأراضي السورية.

مصير الجنرال سوروفيكين
لا تتوفّر، إلى الآن، مؤشّرات كافية لإجابة التساؤلات حول دعم خفي قدّمته قوى أجنبية لـ«انقلابيي روسيا»، إلّا أن عناصر خارجية، وفي مقدّمها حرب أوكرانيا، كان لها دور لا ينكَر في تفاعلات المشهد الداخلي الروسي. وبينما تذبذبت المواقف العلنية للعواصم الغربية، وبصورة خاصة واشنطن، حول تمرّد بريغوجين، نفى مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه»، وليام بيرنز، خلال محادثة هاتفية مع نظيره الروسي، سيرغي نارشكين، وجود أيّ صلة لبلاده بتحرّكات «فاغنر»، على رغم تصريحات سابقة لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قال فيها إن التمرّد «أَظهر تصدُّعات حقيقية» في حُكم الرئيس الروسي، وعلى الرغم أيضاً من تسريبات استخبارية كشفتها شبكة «سي إن إن» في شأن رصْد تحضيرات عسكرية لبريغوجين، منتصف حزيران الفائت، للتحرّك في اتّجاه العمق الروسي، انطلاقاً من مناطق الحدود مع أوكرانيا.
وخلال الأيام القليلة الماضية، وعلى وقْع انهماك الكرملين بـ«رصْد» مواقف النخبة السياسية والعسكرية من برلمانيين وقادة عسكريين وحكّام مناطق، كجزء من «اختبارات الولاء»، توالت التقارير الغربية في شأن وجود شبكة داعمين لبريغوجين من داخل روسيا، وعلى رأسها الجنرال سيرغي سوروفيكين، بزعم علْمه المسبق بمخطّط قائد التمرّد، فيما تتّجه الأنظار إلى شخصيّات سياسية من مثل سيرغي ميرونوف - وهو برلماني وزعيم أحد الأحزاب -، إضافة إلى النائب أوليغ ماتفيشيف، اللذَين جمعتهما علاقة وطيدة ببريغوجين في مرحلة سابقة. وسوروفيكين، الملقّب بـ«الجنرال أرمغدون» على خلفية اشتهاره باتباع استراتيجية «الأرض المحروقة»، والذي يملك سجلّاً حافلاً في عدد من الحروب التي حقَّق فيها الكرملين نجاحات ملحوظة، كحرب الشيشان الثانية أواخر التسعينيات، فضلاً عن كفاءته على رأس سلاح الجوّ في إدارة مهامّ الحملة العسكرية في سوريا بين عامَي 2017 و2019، تمّ تكليفه، أواخر العام الماضي ولفترة قصيرة، بقيادة العمليات في أوكرانيا، ليُكتفى لاحقاً بتعيينه نائباً لقائد العمليات ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف. وسُجّل الظهور الأخير لسوروفيكين، الحائز أرفع الأوسمة، من ضمنها وسام «بطل روسيا»، قبل نحو أسبوع، لدى مناشدته زعيم «فاغنر» إنهاء التمرّد المسلّح، قبل أن تروج أنباء عن تعرّضه للاعتقال، وهو أمر نفته أسرته.

بريغوجين في بيلاروسيا: أيّ دور للوكاشينكو؟
وفي وقت عاد فيه الهدوء إلى العاصمة الروسية، مع إزالة نقاط التفتيش عند تخومها، كمؤشّر إلى طيّ صفحة «انقلاب بريغوجين»، سرّبت صحيفة «كوميرسانت» الروسية معلومات عن تحقيق جنائي تجريه «هيئة الأمن الفدرالي» في حقّ الأخير بتهمة تشكيل تنظيم مسلّح، ما أوحى بالعودة إلى مربّع التأزّم على خطّ العلاقة بين بوتين وصديقه القديم، في ظلّ دعوات إلى عدم التسامح مع المتمرّدين. وبينما تضاربت المعطيات في هذا الشأن، أضاف استمرار غياب إطلالات بريغوجين الإعلامية والمصوّرة، منذ ظهوره الأخير وإعلانه حصر انقلابه ضدّ وزير الدفاع الروسي، ورئيس أركان جيشه، والذي سبق ظهوره في مقطع صوتي خصّصه لنفي مشاركته في «انقلاب ضدّ السلطة السياسية المنتخبة قانونيّاً»، المزيد من عناصر التعقيد إلى مشهد «روسيا ما بعد الحركة الانقلابية».

لا تتوفّر، إلى الآن، مؤشّرات كافية لإجابة التساؤلات حول دعم خفي قدّمته قوى أجنبية لـ«انقلابيي روسيا»


وفي شأن مصير زعيم «فاغنر»، تسود حالة من الضبابية والتباين، بين مَن يرجّح فرضيّة اغتياله أو اعتقاله، علماً أن الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، ادّعى قبل أيام أن نظيره الروسي كان عازماً على تصفية بريغوجين؛ وبين مَن لا يزال يجد مكاناً للرجل في قلب بوتين، يتيح للأوّل الحصول على الصفح. وما بين الافتراضَين، وفي أعقاب حصول بريغوجين على حصانة قانونية، فضلاً عن اختياره بيلاروسيا لتكون أشبه بـ«منفى اختياري»، تتكاثر التساؤلات حول مكان التواجد الفعلي للرجل (على رغم إعلان الرئيس البيلاروسي وجوده في بلاده)، ومستقبل سيطرته على قوات «فاغنر»، وفق اتفاق يبدو أنه تضمّن أيضاً حصول شويغو على حصانة سياسية، أقلّه حتى اللحظة، مع ظهوره في مقاطع مصوّرة خلال تفقده عدداً من المواقع العسكرية الروسية في أوكرانيا. ومع ذلك، يبدو أن بقاء شويغو على رأس وزارة الدفاع لم يَعُد مسألة مضمونة؛ إذ يرى خبراء في الشأن الروسي أن بوتين أراد فقط من وراء التمسّك به عدم إبداء أيّ مظاهر ضعف إزاء بريغوحين، أو التصرّف بطريقة تجعله كمن يستجيب لمطالب المتمرّدين، وهو جَنح إلى السلم مع عناصر «فاغنر» لحاجته الماسّة إلى جهودهم في معارك أوكرانيا، الأمر الذي يفسّر إثناءه على «وطنية» بعضهم، وفتحه الباب أمام إمكانية عمل البعض الآخر ممَّن شاركوا في التمرّد، وبصورة إفرادية وليست جماعية، تحت مظلّة وزارة الدفاع، بموجب عقود. لكن الباحث روب لي يعتقد أن الأحداث الأخيرة «أعطت انطباعاً بأن كلاً من (وزير الدفاع) شويغو و(رئيس هيئة الأركان) غيراسيموف ضعيفان»، مضيفاً أنها أثبتت، في الوقت نفسه، «مدى أهميّة وجود شخصيات موالية لبوتين في مناصب أمنية وعسكرية رفيعة».
في خضمّ ذلك، تُطرح التساؤلات أيضاً حول مستقبل الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، الذي جنّب حليفه في الكرملين وبال أزمة لا يمكن تصوُّر ما كان سيترتّب عليها من تداعيات في حال استمرّت لأيام قليلة إضافية، وذلك من خلال وساطته الناجحة في إقناع بريغوجين بالتفاهم مع بوتين. وتتعلّق تلك التساؤلات بإمكانية أن يحافظ الرئيس البيلاروسي على حلفه مع نظيره الروسي، ضمن شروط الوقوف على مسافة واحدة منه ومن بريغوجين، وعدم ممانعته أن يكون بيدقاً من بيادق الأول في «المعركة الكبرى» ضدّ الغرب، أم أن يعمد إلى مقاسمة الثاني رقعة الشطرنج في معركة «على قياسهما» ضدّ «القيصر»، ولا سيما وأن العلاقات بين موسكو ومينسك لم تكن على الدوام خالية من الشوائب، والتباينات، سواءً على خلفية بعض المحطّات العسكرية المتعلّقة بالخطط العسكرية لاجتياح أوكرانيا، أو على خلفية الموقف من العقوبات الغربية في محطّات أخرى. وانطلاقاً ممّا تقدَّم، وفي ضوء شروع بيلاروسيا في بناء قاعدة عسكرية لقوات «فاغنر» في أحد المباني العسكرية المهجورة في مدينة أفيسوبيتشي، والتي كانت تستخدم مقرّاً لـ«لواء صواريخ 465» البيلاروسي، علماً أن هذا الأخير هو اللواء الوحيد الذي يمتلك صواريخ «إسكندر» الروسية القادرة على حمل رؤوس نووية، وفي ظلّ إعراب دول البلطيق «الناتوية» عن مخاوفها من انتقال «فاغنر» للعمل قرب حدودها، يُطرح السؤال حول ما إذا لوكاشينكو سيستغلّ استضافته بريغوجين بهدف تعزيز أوراقه في المساومة مع موسكو على عدد من الملفّات، أم أنه سيكتفي بلعب دور «الوسيط بكلّ أمانة»؟ والأهمّ من كلّ ما تَقدّم، أيّ دور يَنتظر بريغوجين؟ وهل سيحافظ على التزامه بالاتفاق المبرم مع الرئيس الروسي برعاية لوكاشينكو، أم أنّه سيعود إلى «سكّة الانقلابات»، وضدّ مضيفيه هذه المرّة؟