انتهت اللعبة وقُضي الأمر؛ هكذا، أسقطت تركيا «الفيتو» على عضوية السويد في «حلف شمال الأطلسي»، بعد ممانعة استمرّت على مدى خمسة أشهر. وإذا كانت الذريعة التركية السابقة لـ«الفيتو» تتمحور حول استمرار السويد في دعم النشاطات «الإرهابية» للأكراد وجماعة فتح الله غولين على أراضيها، فإنّ البيان الذي وافق عليه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ورئيس الوزراء السويدي، أولف كريتسيرسون، لا يغيّر من واقع أن أنقرة كانت قد أبدت حلحلة إزاء الموضوع، وكانت تتريّث في الحسم حتى تأتي الموافقة النهائية من جانب إردوغان شخصيّاً خلال القمّة، أملاً بالحصول على مقابلٍ ما، ولا سيما لجهة تيسير واشنطن عمليّة بيع طائرات «إف - 16» إلى أنقرة أو تحديث بعضها، وهو ما لن تُعرَف نتائجه قبل مرور بعض الوقت. أمّا الاتفاق الذي أَعلن عنه الأمين العام لـ«الناتو»، ينس ستولتنبرغ، في بيان من سبع نقاط، فشدّد على «التطبيق الكامل لآلية العمل الثلاثية» بين تركيا والسويد وفنلندا، والتي وقّعتها البلدان الثلاثة في حزيران من العام الماضي في مدريد. وجاء ضمن أبرز بنوده: منْع السويد أيّ نشاطات إرهابية للأكراد وغولين، ودعم تركيا في مسعاها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن استئناف تصدير السلاح إلى أنقرة وتفعيل التعاون الاقتصادي المشترك، على أن تُرفع بروتوكولات الاتفاق إلى البرلمان التركي للتصديق عليها. لم تكن «المقايضة» التي اقترحها إردوغان عشيّة وصوله إلى فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، لحضور قمّة «الأطلسي»، مجرّد حجر كبير، بل «صخرة» ضخمة ناء بحمْلها كل العالم الغربي بشقَّيْه «الأطلسي» والأوروبي، فضلاً عن تركيا التي كانت تدرك أنها ترمي اقتراحاً لن يجد صدى له، ولا هي مقتنعة به أصلاً، ولا تثق بقابليّته للتطبيق لا الآن ولا بعد سنوات. فاقتراح إردوغان المقايضة بين ضمّ السويد إلى «الأطلسي» في مقابل عضويّة تركيا في الاتحاد الأوروبي، طرح أثناء المحادثة الهاتفية بين إردوغان ونظيره الأميركي، جو بايدن، مساء الأحد الماضي، وكرّره الأول علناً قبل مغادرته مطار إسطنبول متوجّهاً إلى فيلنيوس، ظهر الاثنين؛ إذ قال: «منذ 50 عاماً وتركيا تنتظر عند باب الاتحاد الأوروبي. اليوم، كلّ الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي أصبحوا أعضاء في الاتحاد الأوروبي. إنّني أخاطب من هنا هذه الدول التي تجعل تركيا تنتظر. أولاً، افتحي باب العضوية أمام تركيا. وكما فتحنا الباب أمام فنلندا، فلنفتح الباب أمام السويد». وشكّل الاقتراح الآنف مفاجأة للجميع، حتى إن إثارته أثناء المحادثات مع بايدن كانت مفاجئة، إذ دارت المناقشات بينهما حول أربعة عناوين: عضوية كلّ من أوكرانيا والسويد في «الناتو»؛ بيع طائرات «إف-16» إلى تركيا؛ وعمليّة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وفي المسألة السويدية، قال إردوغان لبايدن إن «استوكهولم أقدمت على بعض الخطوات الإيجابية، لكن إرهابيّي حزب العمّال الكردستاني لا يزالون يسرحون ويمرحون في شوارعها». وإذ نفى الرئيس التركي وجود رابط بين عضوية السويد وطلب شراء طائرات «إف - 16» الأميركية، فقد شكر نظيره الأميركي على دعمه في شأن تسليم هذه الطائرات إلى بلاده، طالباً منه أن يعطي زعماء الاتحاد الأوروبي المشاركين في القمّة الأطلسية رسالة دعم قويّة وواضحة لعضوية تركيا في التكتُّل.
لا يزال الوقت مبكراً للحُكم على تداعيات الموقف التركي على العلاقات بين أنقرة وموسكو


واستوقفت تصريحات إردوغان المراقبين من أكثر من زاوية:
1- أنه ربط فيها بصورة واضحة بين دعم تركيا لعضوية فنلندا والسويد وأوكرانيا في «الأطلسي»، وبين مطالبته بايدن بالحصول على دعم الدول الأوروبية لانضمام بلاده إلى الاتحاد، وهو ما لا يستسيغه الأوروبيون، ويعتبرونه تدخُّلاً في شؤونهم الداخلية. وإذا كانت الحرب الأوكرانية قد قرّبت بين الجانبَين الأوروبي والأميركي، غير أن العديد من دول الاتحاد تحتفظ بحساسيّة تجاه الولايات المتحدة، ومنها فرنسا. كما أن المستشار الألماني، أولاف شولتز، قال إن المسار الأوروبي مستقلّ تماماً عن ذاك «الأطلسي». وبالتالي، فإن العنوان الذي توجّه إليه إردوغان في شأن العضوية في الاتحاد الأوروبي، أي بايدن، كان خاطئاً.
2- ولأن الأمر ليس واقعيّاً، فإن تكبير إردوغان للحجر اعتُبر رفعاً لسقف المطالب التركية، وضغطاً على الولايات المتحدة للموافقة على بيْع تركيا 80 طائرة من طراز «إف-16 فيبر» الحديثة، وتحديث 80 طائرة أخرى من الطراز الأقدم موجودة أساساً لديها.
3- في حال عدم حصول أنقرة على ضمانات كافية في شأن تسليم الطائرات، فهي ربّما حصلت على تعهّد بتنازلات أميركية في شأن الموقف من القوات الكردية في شمال شرق سوريا، كما يقول سرتاتش إش في صحيفة «جمهورييات»، حيث يَنظر إردوغان إلى «الخطر الكردي» على أنه «مسألة بقاء».
4- لا يمكن الحديث عن مسار عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي خلال قمّة خاصّة بـ«حلف شمال الأطلسي»، أو من على المنابر الإعلامية، ومن دون تنسيق وتخطيط مسبقَين ومنظّمَين بعناية بين أنقرة وبروكسل؛ إذ إن لهذا المسار خصوصيات وشروطاً بدأ الحديث عنها قبل 60 عاماً ولم ينتهِ، ولا يُتوقَّع لها تالياً ان تُحسم بصورة مفاجئة، وفي قمّة لا علاقة لها أساساً بالموضوع.
5- تكبير الحجر التركي ربّما يكون من أجل تغطية موافقة أنقرة على انضمام استوكهولم إلى الحلف، حيث بات واضحاً أنها رضخت لضغوط كبيرة من دون معرفة ما إذا كانت ستحصل على ثمن جدّي في مقابل ذلك، وهو ما عكسته بوضوح عناوين بعض الصحف التركية الموالية لإردوغان، ومختصرها: «عضوية السويد مقابل الاتحاد الأوروبي». وحول إمكانية تَحقّق هذه المقايضة، يقول الباحث التركي، حاقان غونيش، إن «الأمر ليس واقعيّاً، وإردوغان يريد أن يستغلّ فوزه بالانتخابات الرئاسية ليبدأ المفاوضات مع أوروبا من أعلى نقطة»، مضيفاً إنه لا يرى «استعداداً للقيام بأيّ خطوة جدّية لا من أوروبا ولا من تركيا»، بل إن «إردوغان يريد ترجمة الموافقة على عضوية السويد في مساومات من أجل قضايا أخرى». وفي الاتجاه نفسه، يشير السفير السابق، أرسلان حاقان أوكتشال، بدوره، إلى أن «العلاقات التركية - الأوروبية في انسداد كبير»، مضيفاً إنه «من أجل العضوية، هناك خطوات كثيرة لم تبادر تركيا إليها، وهي متخلّفة كثيراً عن المعايير الأوروبية. وبين تركيا وأوروبا من الخلافات ما يعادل حجم جبال». ويَذكر مراد يتكين، من جهته، أن هناك اقتراحاً بأن توافق الولايات المتحدة على تحديث 80 طائرة «إف-16» موجودة لدى تركيا، على أن يتمّ تأجيل البتّ في بيع أنقرة 80 طائرة أخرى أكثر حداثة من طراز «إف-16 فيبير»، وهو الأمر الذي لا يثير ارتياح أنقرة.
أمّا مصطفى بلباي، فيكتب في «جمهورييات» أنه بعد الموافقة التركية على عضوية السويد والدعوة إلى انضمام أوكرانيا، وتجديد «حلف شمال الأطلسي» اعتبار روسيا «العدو الرئيس»، بات من غير الممكن أن تَعتبر تركيا نفسها في موقع الطرف المحايد والمتوازن بين روسيا وأوكرانيا، مطالباً إردوغان بأن يَعرض على البرلمان تفاصيل الموافقة التركية على عضوية السويد وما جرى في فيلنيوس، علماً أن قضيّة تسليم أنقرة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، خمسة من قادة كتيبة «آزوف» الذين سلّمتهم روسيا إلى تركيا ليبقوا فيها، لا تزال تقابَل بانتقادات روسية عنيفة، إذ وصف رئيس لجنة الدفاع والأمن في المجلس الاتحادي الروسي، فكتور بونداريف، قرار التسليم بأنه «تحريضي»، معتبراً أن دعوة تركيا إلى انضمام أوكرانيا إلى «الأطلسي» تُعدّ مؤشّراً إلى أنها «تنتقل من بلد محايد إلى بلد ليس صديقاً لروسيا». وأضاف إن من مؤشرات ذلك، أيضاً، «موافقة تركيا على تأسيس مصنع لإنتاج الطائرات المسيّرة في أوكرانيا». كما رأى أن «إذعان تركيا لأوامر الأطلسي، جاء نتيجة الضغوط عليها أو رغبتها في الخروج من التعاون مع روسيا تدريجيّاً، والعمل على إقامة طوران الكبرى»، فيما أعرب نائب رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، ألكسي زورافليف، عن أن «تصريحات إردوغان تذكّر بالمواقف التي لم يكن يلتزم بها قادة الانكشارية في زمن الدولة العثمانية».
وعلى الرغم من أن الوقت لا يزال مبكراً للحُكم على تداعيات الموقف التركي على العلاقات بين أنقرة وموسكو، وما إذا كانت تعني بداية مسار جديد في «تصحيح» العلاقات مع الغرب، وآخر معاكس في العلاقة مع روسيا، فإن المواقف التركية الأخيرة المتتالية في سلبياتها تجاه روسيا لا يمكن أن تثير ارتياح أنقرة، وهو ما جلّاه تحذير بعض الكتّاب الأتراك من إمكانية أن تردّ موسكو على إردوغان في سوريا. وفي هذا السياق، بدت لافتةً الهجمة الإعلامية العالية السقف في الصحف الموالية لإردوغان، والتي انتقدت بشدّة «حلف شمال الأطلسي» والاتحاد الأوروبي. ويقول أونال آيدين، في صحيفة «يني شفق»، إن الولايات المتحدة وأوروبا تحوّلتا إلى مسرح مفتوح لنشاطات جماعة غولين، مضيفاً إن «هذا التهديد يحتّم عدم التهاون في شأنه، وهذه مسؤولية وزير الخارجية، حاقان فيدان، الذي له تجربة كبيرة في مكافحة الإرهاب». ويرى أن «أميركا وأوروبا لم توقفا مؤامراتهما وخططهما المعادية لتركيا عبر استخدام جماعة غولين والأكراد ضدّها». من جهته، يكتب يلماز يلدز، في الصحيفة نفسها، عن ازدواجية المعايير لدى الدول الأوروبية وأميركا ودول «حلف شمال الأطلسي»، ومن ذلك «دعم معظم الدول الأوروبية وأميركا لليونان وقبرص اليونانية في شأن مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط، واستنفار الأطلسي ضدّ شراء تركيا صواريخ إس-400 الروسية، فيما لم يحرّك الحلف ساكناً لشراء بلغاريا واليونان وسلوفاكيا صواريخ إس-300 الروسية أيضاً».