منذ الإعلان عن نجاح وساطة الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، في وأْد التمرّد الأخير في روسيا، وما ترتّب على ذلك من «نصف سلام» بين موسكو والمتمرّدين، امتنع بعده زعيم مجموعة «فاغنر»، يفغيني بريغوجين، عن الظهور الإعلامي، في مقابل اكتفاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بكيل التوصيفات القاسية للرجل، تحوّل الاهتمام العالمي إلى ما يقوله لوكاشينكو للوقوف على مستجدّات العلاقة بين بريغوجين والكرملين. على أن تَحرّي حقائق الحدث، لا يزال أشبه بـ«ضرب الرمل السياسي»، وسط جوّ من الضبابية يحيط بالأزمة منذ بدايتها وحتى نهايتها «المفترَضة»، وفق بنود أعلنها لوكاشينكو نفسه، وقد تضمّنت السماح لبريغوجين، ومَن يرغب من مقاتلي «فاغنر»، بالانتقال إلى بيلاروسيا. ومع هذا، بقي الكلام عن «المنفى» البيلاروسي لـ«الفاغنريين»، وما صاحبه من أنباء عن استعدادات تولّتها سلطات مينسك لاستضافتهم في إحدى القواعد العسكرية التي تبعد 80 ميلاً من العاصمة، أشبه بالأحجية، التي لم يُسهم ابتعاد الصديق القديم لزعيمَي روسيا وبيلاروسيا، عن الإطلالات الإعلامية والمتلفزة، إلّا في مضاعفة تعقيداتها.
هل وقع زعيم «فاغنر» في مصيدة بوتين؟
لم تفصل بين إعلان لوكاشينكو توجّه قائد «فاغنر» للاستقرار في بلاده، وبين نفيه وجود «الفاغنريين» داخل بيلاروسيا، سوى أيام قليلة، وهو ما أعاد طرْح التساؤلات والشكوك. حتى الآن، ثمّة مَن لا يستبعد أن يكون تمرّد بريغوجين «مناورة إعلامية»، أو «لعبة تزييف سياسي متقنة»، يقف خلفها الكرملين، سواء لاختبار ردّات فعل الحلفاء في الداخل، أو لاستكشاف نوايا الخصوم في الخارج. وفي حين قد تبدو تلك الفرضية مغالية في بساطتها على أقلّ تقدير، يستند مؤيّدوها إلى جملة تساؤلات مشروعة، من بينها: لِماذا لم يتحرّك الجيش الروسي بالسرعة المطلوبة لكبح التمرّد منذ البداية؟ ولِماذا لم يبادر بوتين إلى إجراء حملة تطهير واسعة في صفوف الجيش، على غرار ما فعل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بعد انقلاب عام 2016؟ وفوق ذلك: لِم كلّ هذه المبالغة في مستوى الرعب الذي أظهره مسؤولون روس إزاء تحرّك بضعة آلاف من المقاتلين نحو العاصمة، وخصوصاً أن بريغوجين أعلن في أكثر من مناسبة أن هدفه ليس إسقاط بوتين، بل إقالة وزير دفاعه، ورئيس هيئة أركان جيشه؟
وإلى جانب إثارة تلك الشكوك، يدافع مروّجو «نظرية المؤامرة» بأن تركيز الحملة الممنهجة ضدّ بريغوجين عبر وسائل الإعلام، وليس في أروقة المؤسّستَين السياسية والأمنية، يرجّح أن يكون الهدف من وراء «الانقلاب المصطنع» اختبار موقف الرأي العام في الداخل، وتعزيز ولائه للرئيس عبر تغذية شعوره بوجود خطر خارجي. ووفق «منطق المكيدة» هذا، فإن «الاستعراض» الإعلامي يأتي في جانب منه لإظهار قوّة النظام أمام الخارج، وفي جانب آخر لردع أعداء الدولة الداخليّين «المفترضين»، وهو ما تبدّى في الاقتحام المتأخّر، وربّما غير المرتجل لمكاتب شركة «فاغنر» في أرجاء روسيا، والتمحيص العلني في مقتنيات زعيمها «المشينة» داخل منزله. وإلى أبعد من ذلك، يذهب أصحاب الرأي المتقدّم، باحتمال أن يكون بريغوجين قد وقع بالفعل ضحية خديعة من صنع صديقه القديم، الذي ربّما رغب في استبعاده من مشهد السلطة في الداخل، ضمن صيغة تكفل للرئيس الاحتفاظ بدور «فاغنر» المفيد خارجياً. وبهدف تعزيز هذه التكهّنات، يحتمل هؤلاء أن يكون بوتين قد تعمّد إعطاء انطباع لبريغوجين بأنه سيلتزم الحياد في الخلاف القائم بينه وبين وزير الدفاع سيرغي شويغو، أو أن يكون قد أوعز إلى بعض القيادات السياسية والعسكرية بتشجيع قائد المرتزقة على فكرة التمرّد المسلّح، عبر الإيحاء له بوجود تأييد واسع له، بما يتيح لاحقاً تشويه صورته «الوطنية»، ونفيه خارج البلاد في أول فرصة سانحة، وهو ما حصل بالفعل.
يحاول بوتين أن يتصرّف بطريقة لا يتوقّعها خصومه الداخليون والخارجيون


والواقع أن لتلك النظرية ما يؤيّدها بالفعل، وتحديداً من خلال ما عبّرت عنه شخصيّات معروفة بقربها من الكرملين، من بينها النائب الأول لـ«لجنة الدوما لشؤون رابطة الدول المستقلّة»، قسطنطين زاتولين، الذي اعتبر أن بوتين أَهمل طويلاً ضرورة تحييد التهديد الذي بات يمثّله بريغوجين، ملمّحاً بذلك إلى أن أزمة «فاغنر» لم ترسُ بعد على «برّ التسوية النهائية». وفي الاتجاه نفسه، عاد مستشار وزير الدفاع البيلاروسي، ليونيد كاسينسكي، قبل أيام، ليؤكد أن مقاتلي «فاغنر» لم يتوجّهوا إلى بيلاروسيا، على رغم اكتمال التحضيرات لاستضافتهم فيها. كما أن لوكاشينكو كشف أخيراً أن بريغوجين ليس موجوداً على الأراضي البيلاروسية، وأن مرتزقة «فاغنر» لم يغادروا مواقعهم إلى جانب القوات الروسية على جبهات الشرق الأوكراني، ما أوحى ببقاء عمل مقاتلي الشركة ضمن هيكلية منفصلة عن وزارة الدفاع، خلافاً لِما راج سابقاً عن اتفاق في هذا الشأن، لتعود التكهّنات بأن بريغوجين ربّما لم يغادر روسيا قطّ منذ حادثة التمرّد، وبأن علاقته مع الرئيس الروسي ليست، وبدرجة متساوية، على قدْر من السوء أو التحسّن الذي قد يتصوّره البعض.
إزاء ما تَقدّم، يمكن الحديث عن سيناريوَين اثنَين ينتظران بريغوجين: إمّا إخضاعه وبعض قياداته للمحاكمة القضائية، وفرض عقوبات مخفّفة عليهم على خلفية الانقلاب على سلطة الدولة، كـ«كفّارة» تضمن له فتح صفحة جديدة مع الكرملين، بما يحفظ ماء وجه الرئاسة، من دون المساس بدور «فاغنر» العسكري، مع مصادرة أصولها؛ وإمّا الصفح التامّ عنه وأفراد مجموعته كافة، على أن يصار إلى إرساء أسس جديدة للعلاقة بين المجموعة ووزارة الدفاع.

واقعية بوتين السياسية: مكاسب في أكثر من اتجاه
«الفصل الغامض» من صراع بوتين - بريغوجين، لم يقتصر على الكلام الصادر عن سلطات مينسك، بل تعدّاه إلى تصريحات الكرملين. إذ فوجئ كثيرون، أخيراً، بصراحة الناطق باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، عندما كشف عن لقاء جمع الرئيس بالعشرات من قيادات «فاغنر»، وعلى رأسهم بريغوجين، في ظلّ كلام عن رصد حركة نشطة للطائرة الخاصّة بالأخير بين الأراضي البيلاروسية، ومدينتَي سان بطرسبورغ وموسكو الروسيتَين في الأيام الأخيرة، ما يوحي بوجود مفاوضات جديّة سبق أن لمّح إليها لوكاشينكو. بناءً عليه، ينفي محلّلون أيّ نزعة «تآمر» أو صفة «مكيدة» عمّا جرى في الـ 24 من حزيران، بدليل اندلاع صدامات مسلّحة بين الطرفَين، بعضها أسفر عن سقوط قتلى في صفوف الجيش الروسي، ما دفع القيادة السياسية إلى منح علاوات على رواتب عناصر وضباط الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى بنسبة 10.5%. ويضع هؤلاء لقاء بوتين بقيادات «فاغنر» في خانة الحسابات السياسية الواقعية، وعلى رأسها أوّلاً عدم انتفاء الحاجة إلى دور «فاغنر» وخاصةً في الخارج؛ وثانياً شعبية الرجل في فترة ما قبل الانقلاب وما بعده.
ومن منظور محلّلين روس، يحاول بوتين أن يتصرّف بطريقة لا يتوقّعها خصومه الداخليون والخارجيون. فالرجل، المعروف عنه تشدّده، ولا سيما في المسائل المتعلّقة بالأمن، يبدو كمن يقدّم سياسة الجزرة على سياسة العصا، في محاولة لمعالجة تبعات الأحداث الأخيرة، وذلك من خلال إغداق الأسلحة والعطايا المالية على الأفرع الأمنية، كـ«الحرس الوطني» بقيادة الحارس الشخصي السابق للرئيس الروسي فيكتور زولوتوف، أو كيل الدعم للنخب السياسية في الحكومة والبرلمان على حد سواء، ممَّن لم تتزحزح مواقفها في تأييد النظام في وجه التمرّد. كما أن عدم شنّ حملة اعتقالات أو إقالات واسعة في صفوف جنرالات الجيش، يفسّره مصدر مقرّب من بوتين، بإدراك الرئيس الروسي أن «اعتقال الجنرالات من شأنه أن يوقع الجيش في حالة من الفوضى».
وفي هذا الإطار، ترى أستاذة العلوم السياسية الروسية، إيكاترينا شولمان، أن بوتين «يتصرّف بعقلانية شديدة، ذلك أنه يركّز على كيفية صون بقائه على المستويَين السياسي والشخصي»، وهو ما يصبّ في خانته إبعاد بريغوجين من المعادلة السياسية، في المقام الأول عبر تعميم صفة «الخائن» عليه، وهي مهمّة تولّاها الإعلام الروسي، وفي المقام الثاني تقييد أو «تقنين» دوره العسكري، بدءاً من ساحة الحرب في أوكرانيا، بما شكّل انتصاراً لا لبس فيه للرئيس. والواقع أن للأخير «سوابق» في التعاطي مع حالات التمرّد والعصيان السياسي، تشهد مثلاً على نجاحه في تقليم «الأظافر» السياسية والإعلامية والاقتصادية لخصمه ميخائيل خودوركوفسكي، أحد أباطرة النفط الروس في عقد التسعينيات، وفق تسوية فتحت لخودوركوفسكي أبواب المنفى بعد فترة قضاها في السجن، إضافة إلى سيطرته في فترة لاحقة على حالة الاعتراض السياسي التي شكّلها أحد أشرس معارضيه، ألكسندر نافالني، الذي يقبع حالياً في السجون الروسية.

«فاغنر»: حصن بريغوجين!
يبدو أن الحاجة إلى استمرار دور «فاغنر»، سواء في دعم الحلفاء الخارجيين لروسيا أو رفد قواتها في أوكرانيا، فضلاً عن صعوبة أو استحالة «تدجين» المجموعة أو إعادة هيكلتها تحت قيادة شخصية أخرى غير بريغوجين، في ظلّ تقديرات باحتفاظ قسم كبير من ضباط الصف الثاني، والعناصر المنضوية في الشركة بولائها للرجل، هما بالضبط ما أقنعا الكرملين بأن لا بديل واقعيّاً من التفاوض مع «طبّاخ الرئيس» السابق. ويأتي ذلك بعدما برزت طروحات للتعامل مع مرحلة ما بعد التمرد، من قبيل الاستعانة بشركات أمنية روسية خاصة أخرى، كشركة «باتريوت» المملوكة لشويغو، والعاملة داخل عدد من بلدان القارة الأفريقية والشرق الأوسط، أو كشركات مشابهة تملكها شركة «غاز بروم»، تنحصر مهامّها في حراسة منشآت نفطية وغازية. ووصل الأمر إلى حدّ اقتراح تكليف أجهزة أمنية رسمية، كجهاز «الحرس الوطني» الروسي، المؤسَّس عام 2016، والذي يدين بالولاء لبوتين بمهام «فاغنر»، بأن يتولّى المهامّ العسكرية والأدوار الخارجية المنوطة بـ«فاغنر»، كليّاً أو جزئياً، تمهيداً لإلغاء دور الشركة نهائياً في المرحلة المقبلة. لكن كلّ تلك الطروحات بقيت في الإطار الكلامي فقط. كما لا يخفي أن بريغوجين حظي بشعبية قياسية كقائد عسكري محبوب، وشخصية شجاعة لا تتورّع عن انتقاد الطغمة السياسية الحاكمة، ناهزت الـ 60% قبيل تمرد 24 حزيران، بصورة جعلته يزاحم بوتين على قلوب المواطنين الروس، وخاصةً بعد الحرب في أوكرانيا. وقد أظهر استطلاع للرأي، أُجري مطلع الشهر الجاري، أن قرابة 30% من الروس، معظمهم من فئة الشباب، لا يزالون يحتفظون بنظرة إيجابية حيال بريغوجين، في مقابل 40% يمقتونه، معظمهم من كبار السن. وفي صفوف الجيش، يعتقد جنرالات سابقون روس أن ميزة بريغوجين أنه حظي بتقدير نسبي في أوساط الجنود والضباط من الصفين الثاني والثالث في الجيش، على خلفية انتقاداته لمسار الحرب ضدّ كييف.