ليس بعيداً عن فيلنيوس، حيث ناقش قادة حلف «الناتو» مسار حربهم الضروس مع روسيا، أنهى وزراء خارجية دول «مجلس التعاون الخليجي» الست حوارهم الاستراتيجي مع نظيرهم الروسي، سيرغي لافروف، بالاتفاق على المضي في تطوير علاقات يُعتقد أنها لم تتقدّم بالقدر المأمول. الخليجيون يحافظون على تواصل ساخن مع موسكو، وتعاون في مجال الطاقة، وحرص على الحفاظ على أسعار «متوازنة» للنفط، العنصر الحيوي لروسيا والسعودية على السواء، ما يدفع إلى القول إن الطرفَين أقرب إلى «لوبي نفطي». أمّا الروس، فيسعون إلى استدامة ماليتهم العامة، واقتصادهم الذي أظهر متانة في الحرب، أكثر من مؤسّستهم العسكرية التي تعرضت لإرباك قبل 500 يوم، بسبب تقديراتها الخاطئة لمدى تغلغل الطرف الأميركي في الجيش الأوكراني، الذي غيّر عقيدته العسكرية في عام 2014. وفي المقابل، يعمل السعوديون، بالتعاون مع موسكو، في «أوبك بلس»، لبلوغ أسعار النفط ما بين 80 و100 دولار للبرميل، بغرض تمويل خططهم المليارية، الساعية إلى مضاعفة عدد سكان الرياض، وتحويلها، ومناطق أخرى في المملكة، إلى نقطة جذب استثماري عالمي، و«قوة اقتصادية كبرى»، في ظلّ ضعف عسكري كشفته حرب الرياض ضد صنعاء. الخليجيون، إذاً، يتخذون موقفاً «حذراً» من الصراع على الأراضي الأوكرانية، وقد تفادوا إصدار بيانات مندّدة بغزو روسيا لجارتها التي أصبحت تابعة لأميركا، لكنهم انضموا إلى تنديدات، ذات بعد معنوي ودلالة سياسية، أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة. يقول الخليجيون إنهم ضد الحرب، لكنهم يتفهّمون الهواجس الأمنية للروس، والتي يتسبّب بها تمدّد حلف «الناتو»، «غير المبرّر»، على حدود المعسكر الشرقي السابق. هذا الموقف «المتوازن»، محلّ ترحيب روسي بلا شك، لكن موسكو لا تطالب الخليجيين بأكثر من ذلك، بالنظر إلى أن «مجلس التعاون» حليف أمني قديم لواشنطن، ويرتبط أعضاؤه بعلاقات وطيدة مع «حلف الأطلسي»، الذي تُصنّف البحرين وقطر - ودول عربية أخرى - «حليفتين رئيستَين» من خارجه، ويتصرّف كشرطي للعالم، ويناصب العداء لموسكو، وحليفتها بكين القلقة من انخراط اليابان وكوريا وأستراليا في تحالفات عسكرية مع الغرب.
روسيا لا ترتاح إلى ما تكدّسه أميركا من قواعد عسكرية في طول الخليج وعرضه: برية (الكويت)، وبحرية (البحرين)، وجوية (قطر)، واستخباراتية (الإمارات). وهي (روسيا) قلقة من مطالبة السعودية بمزيد من الحضور العسكري الغربي في الخليج الغني بالنفط، والمحاذي لطهران التي يعوّل عليها الروس - وليس على الدول الست - لتوصلهم إلى «المياه الدافئة»، علماً أنه أُجريت مناورات صينية - روسية - إيرانية، أكثر من مرة، في المحيط الهندي وبحر عُمان. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن روسيا ترى في إيران جزءاً من «الأوراسية»، الهوية التي تحاول روسيا - ما بعد الاتحاد السوفياتي - تكريسها، إلى جانب البعد الروحي والقومي. إيران، إذاً، بُعدٌ رئيس في التواصل الخليجي - الروسي، حيث تأمل الرياض أن تحافظ موسكو على علاقة متوازنة بين القطبين اللذين دخلا أخيراً في تفاهم رعته الصين، حليفة روسيا التي تسعى، بالتفاهم مع بكين وطهران، نحو الإطاحة بالأحادية الأميركية، وهو سعي تتحسّب منه الدول الخليجية.
وتستورد السعودية أغلب أسلحتها من أميركا، بنسبة 72%، فيما النسبة المتبقّية من «الحاجات» التسليحية تشتريها من دول غربية أعضاء في الحلف الأميركي، وهذا ينطبق على دول الخليج الأخرى. والسلاح عنصر حاسم في قياس العلاقات الخليجية مع الغير، بالنظر إلى نظرية «الأمن أولاً»، السارية لدى دول الخليج، التي ترى نفسها دولاً صغيرة، ومحل أطماع «الكبار». وعلى رغم تلك المعطيات، فكلما التقى الخليجيون الروس أو الصينيين، نقرأ - ويحب معشر الصحافيين هذه العناوين – عن تحوّل موسكو أو بكين إلى بديل لواشنطن. العلاقات بين موسكو ودول الخليج مهمّة، بل وتزداد حيوية، بيد أن العلاقات مع أميركا تكاد تكون عنصراً «ثابتاً» في السياسات الخارجية الخليجية، والعناصر الأخرى أقرب إلى «متغيّرات». وفق ذلك، قد نصل إلى تقدير أكثر واقعية للسياسة الخليجية تجاه روسيا أو غيرها، أخذاً في الاعتبار - بطبيعة الحال - أن الأحادية القطبية سبق أن بلغت ذروتها، وهي آخذة في الترنّح، مفسحةً المجال أمام عالم لا تستفرد به أميركا، بيد أن هذا سيحتاج إلى وقت وحروب، ليس آخرها حرب «الغرب» - وليس أميركا فقط - و«الشرق» - وليس روسيا فقط - في أوكرانيا، والتي يبدو العالم الغربي مرتاحاً ما دامت محصورة في النزيف السلافي، ومن دون أن تتحوّل إلى حرب نووية.
إلى جانب الأبعاد الأميركية والإيرانية والنفطية، تحضرُ في العلاقات الخليجية - الروسية التجارة، وقضايا المنطقة الأخرى المتشابكة. فالتبادل التجاري يبلغ حوالي 11مليار دولار، كما أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أثناء اجتماع موسكو قبل يومين، ما يعكس بطء تطور العلاقات بين الجانبين، بينما يبلغ التبادل التجاري بين دول الخليج وأوروبا أكثر من 100 مليارات دولار (2022)، ومع الصين يفوق 300 مليار دولار (2022)، ومع أميركا حوالي 70 مليار دولار (2021). الأرقام تتحدّث عن نفسها إذاً، وتكشف الحذر الذي يتّسم به الخليجيون في التعامل مع روسيا، أو الفشل في النهوض بالعلاقات التجارية بين الطرفين، إذا أحسنا الظن، وذلك ليس من أسس التحليل السياسي. توقيت المشاورات الخليجية - الروسية، انطلاقة واستئنافاً، في لحظتين فارقتين، قد يعكس هو الآخر تعقيدات «الحوار الاستراتيجي». انطلاق الاجتماعات حدث بعد أشهر معدودة من تفجّر ما عُرف بـ«الربيع العربي»، حيث عُقدت أولى الجلسات في تشرين الثاني 2011، في أبو ظبي، في محاولة خليجية، ربّما، لكسب موسكو في الصراعات المتفجّرة حينها في ليبيا وسوريا، حيث التأثير الروسي أكبر منه في مصر واليمن والبحرين والمغرب، وكلّ هذه الدول شهدت تظاهرات ضخمة. واستئناف الجلسات بين الجانبين، تمّ في حزيران من العام الماضي (2022)، بعد أشهر قليلة من انطلاق الحرب في أوكرانيا، إثر توقّف للمشاورات دام نحو ست سنوات، علماً أن آخر اجتماع كان قد التأم في عام 2016، وقد فجّره الصدام في سوريا.