ومع أن قادة الحلف اتّفقوا على أن مكان أوكرانيا في النهاية سيكون في «الأطلسي»، لكنّهم لم يصلوا إلى حدّ تسليم كييف دعوةً إلى الانضمام، أو جدولاً زمنياً لتحقيق ذلك، ما يعيد الأمور إلى سقف قمّة الحلف في بوخارست (2008)، التي وعدت أوكرانيا بأن «تصبح» يوماً ما عضواً في «الناتو». وأعلن ستولتنبرغ أن الحلف سيدعو كييف «عندما تتحقَّق الشروط ويتّفق الحلفاء»، ما تسبّب بخيبة أمل عميقة لدى النظام الأوكراني وعدد من الحلفاء في شرق أوروبا الذين دفعوا في اتجاه ضمّ أوكرانيا رسميّاً خلال «قمّة فيلنيوس». وفي تعليقه على ذلك، استهجن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، التردّد الغربي، معتبراً أنه «أمر غير مسبوق وسخيف بالكليّة عندما لا يتمّ تحديد إطار زمني لعضوية أوكرانيا، ولا حتى توجيه دعوة إلى العضوية». وكان اضطرّ الجانب الأميركي، مؤيَّداً من ألمانيا، إلى تبنّي دور الطرف العاقل في التحالف لكبح جماح دول شرق أوروبا وبحر البلطيق التي تطالب بضمّ أوكرانيا بصفة عاجلة، وهو ما كان سيُدخل «الناتو» تلقائياً كطرفٍ مباشر في الصراع مع روسيا بحكم بند الدفاع المشترك.
أعرب الحلفاء عن التزامهم النهائي بدعم نظام كييف لمواجهة «العدوان الروسي» مهما طالت الحرب
كذلك، أعرب الحلفاء عن التزامهم النهائي بدعم نظام كييف لمواجهة «العداون الروسي» مهما طالت الحرب، وأعلن بعضهم عن رزم جديدة من المساعدات العسكرية والمالية، كان أبرزها تعهد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بتزويد الجيش الأوكراني بصواريخ «كروز» بعيدة المدى (250 كيلومتراً)، وهو ما سيسمح بهامش جغرافي مضاعف لاستهداف خطوط إمداد الجيش الروسي. وشدّد ناطق عسكري فرنسي على ضرورة عدم اعتبار هذه الخطوة تصعيداً، بحكم أن روسيا تستخدم صواريخ ذات مدى أطول، وأن البريطانيين سبقوا الفرنسيين إلى إرسال صواريخ مماثلة استُخدمت بالفعل ضدّ القوات الروسية داخل المناطق التي ضمّتها روسيا في إقليم دونباس. أيضاً، أعلنت ألمانيا عن رزمة مساعدات جديدة بقيمة 700 مليون يورو، تضمّنت بطاريتَي صواريخ «باتريوت» والمزيد من الدبابات والمركبات المدرّعة. وكان الأميركيون استبقوا القمّة بإعلانهم مدّ أوكرانيا بذخائر عنقودية يمكن إطلاقها من المدفعية أو من الطائرات، على رغم كونها محرّمة دوليّاً بسبب أضرارها الهائلة على المدنيين في مناطق القتال. ووفق مسؤولين تحدّثوا على هامش القمّة، فإن تحالفاً من 11 دولة في «الناتو» سيبدأ تدريب طيارين أوكرانيين على قيادة مقاتلات «إف-16» اعتباراً من آب المقبل في قواعد عسكرية في الدنمارك ورومانيا، «ما قد يسمح برؤية نتائج مع بداية العام المقبل»، وفق تصريحات وزير الدفاع الدنماركي.
على جانب آخر، يشير حضور أربعة من زعماء آسيا والمحيط الهادئ (رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، ورئيس الوزراء النيوزيلندي كريس هيبكنز) قمّة فيلنيوس، إلى أن وجهة نظر الولايات المتحدة في ما يتعلّق باعتبار الصين «عدوّاً استراتيجياً» للحلف، تتكرّس على حساب مواقف أكثر حذراً - من قِبَل ألمانيا وفرنسا أساساً -. ولخّص ستولتنبرغ ذلك، عندما قال: «ما يحدث في أوكرانيا اليوم، يمكن أن يحدث في (آسيا) غداً»، في إشارة ضمنية إلى تايوان. وأعادت الوثيقة الاستراتيجية الصادرة عن القمّة، تأكيد ما أُقرّ في قمة الحلف في مدريد العام الماضي، في شأن تهديد الصين «مصالح وأمن وقيم الناتو» من خلال هجمات الحرب الهجينة والسيبرانية «الخبيثة»، و«خطابها العدائي وممارستها التضليل، والجهود التي يبذلها الحزب الشيوعي الصيني الحاكم للسيطرة على قطاعات التكنولوجيا الرئيسة، والمعادن الحرجة، وسلاسل التوريد العالمية». وجدّدت الوثيقة أيضاً تحذيرات العام الماضي من «تعمّق الشراكة الاستراتيجية» بين الصين وروسيا، داعيةً بكين إلى الامتناع عن جميع أشكال الدعم لحرب روسيا ضدّ أوكرانيا - وبخاصة توريد الأسلحة الفتاكة. ويريد ستولتنبرغ، الشديد الولاء للمصالح الأميركية، فتح مكتب اتصال لـ«الناتو» في طوكيو، تحضيراً لتوسيع نطاق عمليات الحلف إلى المحيطَين الهندي والهادئ في مواجهة الصين. لكن باريس تعارض ذلك إلى الآن، إذ تحتفظ وبرلين، بعلاقات اقتصادية قوية مع بكين، ما يعني أن نقل العلاقات مع الأخيرة إلى مربّع العداء ستكون له آثار وخيمة على مصالح البلدَين. على أن أطرافاً أخرى لا تتّفق بالضرورة مع التقييم الفرنسي، حيث تشارك قوات بريطانية في مهام تدريبية في اليابان، وتنتشر سفن عسكرية كندية إلى جوار القطع البحرية الأميركية في جوار الصين.
أمّا بخصوص روسيا، فكرّرت القمّة موقف «الناتو» الاستراتيجي المتمثّل في اعتبار «الاتحاد الروسي التهديد الأكثر أهمية ومباشرة لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية». وهي توجّهت بلهجة حازمة إلى بيلاروسيا وإيران، داعيةً إيّاهما إلى إنهاء تواطئهما مع روسيا والعودة إلى الامتثال لـ«القانون الدولي». ودانت دعم بيلاروسيا الفعّال للمجهود الحربي الروسي من خلال السماح باستخدام أراضيها وبنيتها التحتية من قِبَل القوات الروسية لشنّ هجمات على أوكرانيا، بما في ذلك نشر القدرات النووية على أراضيها. وطالبت طهران بوقف دعمها العسكري لموسكو، ولا سيما تصدير المسيّرات «التي استُخدمت لمهاجمة البنية التحتية الحيوية في أوكرانيا، ما تسبّب في سقوط ضحايا مدنيين على نطاق واسع».
وفي ما يتعلّق بالمنطقة العربية، قال الحلفاء إنهم سيواصلون الانخراط في «التحالف الدولي لمحاربة داعش»، متعهّدين ببناء قدراتهم لمواجهة «الإرهاب»، والعمل مع الجهات الفاعلة الدولية في هذا المجال. وكرّروا تعهّدهم بألّا يُسمح أبداً لإيران بامتلاك سلاح نووي، ودعوها إلى وقف جميع أنشطة الصواريخ الباليستية التي تتعارض مع قرار مجلس الأمن الرقم 2231، والامتناع عن «الأعمال المزعزعة للاستقرار». ويتّجه الحلف إلى تعميق شراكاته في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وتواصله مع المنظّمات الإقليمية، من مثل «مجلس التعاون الخليجي» ومنظمات المجتمع المدني غير الحكومية، مع تنفيذ صارم لخطط بناء القدرات الدفاعية لكلّ من العراق والأردن وموريتانيا وتونس. وكشفت وثيقة «الناتو» الاستراتيجية عن ترتيبات تتمّ مع السلطات الأردنية، خصوصاً، لإنشاء مكتب اتصال إقليمي للحلف في عمان. وفي ما يتّصل بالعراق، جدّد «الناتو» دعمه للنظام العراقي القائم، وتعهّد بأن تواصل بعثته في بغداد تقديم الاستشارات غير القتالية ودعم بناء قدرات المؤسسات الأمنية العراقية في منطقة بغداد الكبرى، وتعميق التعاون مع وزارة الدفاع.