رام الله | تُولي حكومة اليمينَيْنِ المتطرّف والفاشي في إسرائيل اهتماماً بالغاً لإحداث تغيير جذري في الضفة الغربية المحتلّة، عبر محاولة حسم الصراع فيها وضمّها كلياً، بالاستناد إلى خطّة وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، في هذا الإطار. الخطّة المبنيّة على الفكر الفاشي العنصري، تهدف بالدرجة الأولى، وبشكل مطلق ونهائي، إلى إنهاء أيّ وجود فلسطيني عربي قومي في أرض فلسطين، ومنع إقامة أيّ كيان فلسطيني غربي نهر الأردن. وبالتالي، تبدو كأنها «تصويب» لما لم يحدث عام 1948، حين احتلّت العصابات الصهيونية فلسطين، ولم تستطع، رغم ارتكابها مجازر إبادة جماعية، أن تطال جميع الفلسطينيين. ويطلق سموتريتش على خطّته «الأمل الوحيد»، عانياً بذلك أنها الأمل الوحيد للصهيونية وإسرائيل، أي هجرة الفلسطينيين أو موتهم أو موافقتهم على أن يكونوا عبيداً لدى اليهود. وبالتالي، هي تُصدّر المشكلة الرئيسة التي تواجه إسرائيل، على أنها كامنة في الصراع مع الشعب الفلسطيني، وهذا يتطلّب دفع الأخير إلى الاستسلام والتخلّي عن حلمه في إقامة دولة له، والتسليم بأنه لا يوجد تقرير مصير في الضفة الغربية إلّا لـ«الأمة اليهودية» فقط.وليست هذه الخطّة مجرّد دعاية انتخابية، يهدف منها سموتريتش إلى جذب أصوات المستوطنين المتطرفين، بل هي خطّة عملية، نُفّذ جزء كبير منها على الأرض، فيما يَجرى العمل على تنفيذ البقية. إذ عقد سموتريتش، أخيراً، بحسب الإعلام العبري، اجتماعاً مع ما تسمّى «الإدارة المدنية»، ووزارة الجيش وممثّلين عن المؤسسة الأمنية، لتغيير أولويات العمل التنفيذي في الضفة الغربية، تمهيداً للسيطرة الكاملة على مناطق «ج» لمصلحة الاستيطان. ووفقاً لتلك المعلومات، فإن «الاجتماع ركّز على صياغة سياسة جديدة في ما يتعلّق بهدم المباني التي توصف بأنها غير قانونية في المنطقة (ج)، مقابل زيادة البناء اليهودي فيها، ووقف البناء الفلسطيني في تلك المناطق». وتشكّل المناطق المصنّفة «ج» قرابة 60% من المساحة الإجمالية للضفة، وهي تخضع للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية الكاملة، وذلك بموجب «اتفاق أوسلو» الذي وقّعته «منظّمة التحرير الفلسطينية» وإسرائيل عام 1993. وضمن هذا الإطار، تمنع سلطات الاحتلال الفلسطينيين في تلك المناطق من البناء، وفي حال تمكّنهم من ذلك، فإنها تعمل باستمرار على هدم المنازل والمنشآت بدعوى أنها غير مرخصة، فيما يستمرّ المستوطنون في إقامة بؤر استيطانية والاستيلاء على أراضٍ فلسطينية بغرض التوسّع الاستيطاني بحماية من جيش الاحتلال.
ووجدت خطّة الحسم التي صاغها سموتريتش عام 2017، وتبنّاها حزب «الصهيونية الدينية»، بعد وصول زعيم الأخير إلى الحكومة، وتولّيه منصب الوزير الثاني في وزارة الحرب بما جعله مسؤولاً عن الاستيطان في الأراضي المحتلة منذ 1967، بالإضافة إلى منصب وزير المالية، بيئة ممتازة لسلوك سكّة التنفيذ. وتتضمّن الخطة فرض السيادة الإسرائيلية على أراضي الضفة، وتكثيف الاستيطان اليهودي فيها، وحلّ السلطة الفلسطينية، وتشجيع الفلسطينيين على الهجرة إلى الخارج. وهي تقدّم بدائل مستمدّة من فحوى إنذار يشوع بن نون لسكان مدينة أريحا، عشية اقتحامها قبل أكثر من ألفَي عام، والذي جاء فيه: «إن المستعد للتسليم بوجودنا هنا فليُسلّم، ومن يريد المغادرة فليُغادر، ومن يختار القتال عليه انتظار الحرب». وعلى المنوال نفسه، يقول سموتريتش: «ليس اليأس هو الذي يولّد الإرهاب، بل الأمل بقيام دولة فلسطينية، وهذا الأمل هو ما أنوي اقتلاعه». وتبدو، الآن، جليةً الطريقة التي أدار بها سموتريتش المفاوضات للمشاركة في حكومة بنيامين نتنياهو؛ اذ اشترط الإشراف على المستوطنات وحياة المستوطنين، وأصرّ على تنفيذ الإصلاحات القضائية، ما يعني إبعاد المحكمة من طريق تنفيذ خطّته، وتخصيص الموارد المالية اللازمة لها، وعدم السماح للجيش أو المستوى السياسي بإخلاء البؤر الاستيطانية في الضفة، ومصارعة وزير الجيش على ذلك، إلى جانب نيّته تولّي «الإدارة المدنية» في الضفة، ما يعني جعل الأنظمة العسكرية مدنيّة، وتحقيق الإلغاء الكامل للسلطة الفلسطينية، وإنشاء مستوطنات جديدة، وتجنّب منح الفلسطينيين تصاريح بناء، كي يفهموا أنه لن تكون لهم دولة، بل لن يكون هناك شعب فلسطيني أصلاً.
وفي قراءته لتلك الخطّة، يرى مدير دائرة الخرائط في «جمعية الدراسات العربية»، خليل التفكجي، في حديث إلى «الأخبار»، أن «خريطة فلسطين واضحة تماماً لدى الصهيانة، وهي أن ثمّة دولة واحدة ما بين البحر والنهر، وليس دولتين، وسموتريتش تكلّم عن هذا الأمر، ووضع أمام الفلسطينيين 3 خيارات، وهي: إمّا القتل أو الهجرة أو القبول بما هو موجود (دولة يهودية) بحقوق منقوصة». ويضيف التفكجي أن «ما يجري داخل الضفة من إقامة للبؤر الاستيطانية، وتوسيع للمستوطنات، ونقل للمستوطنين من الداخل المحتل الى الضفة الغربية، ودفاع عن العنف الاستيطاني الذي يزداد، وتحويل لجزء كبير من أراضي الضفة إلى مزارع كهربائية، وفتح للشوارع وشقّ لها، وتسريع للاستيطان بشكل كبير، وفرض للقانون الإسرائيلي، يعني تطبيقاً عملياً لما يسمّى الضم الزاحف للضفة، والذي بدأ منذ فترات طويلة، فالدولة الفلسطينية في الفكر الصهيوني ليست موجودة داخل الأرض الفلسطينية، وإنما في الأردن». وحول أدوات تنفيذ الخطة، يلفت التفكجي إلى أنه «ضمن الإمكانات المالية المتاحة له، وفي ظلّ ظروف دولية مواتية، تسير عملية الضمّ الزاحف خطوة خطوة، على أساس اعتبار الضفة أراضي متنازعاً عليها وليست أراضي محتلّة، وتصنيفها أراضي دولة، سواء كانت مسجَّلة باسم الدولة السابقة (الأردن) أو غير معرَّفة، وسحب كلّ القوانين المطبَّقة، سواءَ العثماني أو البريطاني أو الأردني أو التشريعات العسكرية الإسرائيلية». ويتابع التفكجي أن «الخطّة تعتمد كذلك على تطويق المدن الفلسطينية بالمستوطنات والشوارع، والدخول والخروج بإذن إسرائيلي، وإقامة بؤر استيطانية في المدن بما يقتل التوسّع الاقتصادي والديموغرافي مستقبلاَ للتجمّعات الفلسطينية، وبالتالي فإنّ أيّ زيادة سكانية ستكون في اتّجاه الهجرة إلى الخارج».
حتى يحقّق الاحتلال «دولته الكبرى»، فإن ذلك يتطلّب اجتثاث الفلسطينيين عن بكرة أبيهم


ويوضح التفكجي أن ما ورد في خطّة سموتريتش «ليس بجديد؛ فمنذ سبعينيات القرن الماضي وإسرائيل تخطّط لتوطين مليون مستوطن في الضفة، كما أن شقّ الشوارع الاستيطانية صدر في الرقم العسكري 50 للطرق عام 1983»، معتبراً «ما يجري اليوم تطبيقاً يومياً لصفقة القرن على الأرض من دون الإعلان عن ذلك». ويذكّر بأن «صفقة القرن عبارة عن مجموعة مخطّطات إسرائيلية مثل خطط ألون ونتنياهو وشارون وغيرها، وافقت عليها واشنطن، وسموتريتش اليوم بخطّته يمثّل الصهيونية بكلّ أبعادها وخططها التي كانت تنفَّذ منذ عام 1917، وقبل ذلك». وبالتزامن مع لقاءات سموتريتش مع أطراف المؤسسة الصهيونية، أطلق الحاخام اليهودي المتطرف، أليعازر ميلاميد، تصريحات بشأن حدود إسرائيل، والتي قال إنها يجب أن تمتدّ من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق. وأضاف ميلاميد في درسه الأسبوعي لطلابه: «طالما أنه لا يوجد عدد كافٍ من اليهود في أرض إسرائيل، فإن أعداءنا مستمرّون في الوجود هناك ويقتلوننا»، مضيفاً إنه «لم يتمّ الاستحواذ حتى الآن سوى على المنطقة المحيطة بنهر الأردن»، في إشارة إلى أرض فلسطين.
وعلى رغم خطورة خطّة سموتريتش، إلّا أن تطبيقها لا يبدو بالسهولة التي يتصوّرها اليمين الفاشي، إذ إن إسرائيل التي كانت قادرة سابقاً على هزم جيوش عربية في عدّة أيام، باتت اليوم تتحصّن خلف جدران مشيّدة لحمايتها، من بينها الجدار المقام على حدود فلسطين الشمالية مع لبنان وسوريا خشية من «حزب الله»، والعوائق المنصوبة على حدود قطاع غزة، وقبلها جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، حيث تواجه الآن مقاومة متدحرجة، تجلّى آخر فصولها ظهر الأحد، بعملية بيت لحم. وبالتالي، حتى يحقّق الاحتلال «دولته الكبرى»، فإن ذلك يتطلّب اجتثاث الفلسطينيين عن بكرة أبيهم، وهذا ما لا تبدو إسرائيل قادرة عليه.