نحا دور مجموعة "فاغنر" في أفريقيا، ابتداءً من النصف الثاني من تموز الجاري، في اتّجاهات أوسع وأكثر تعقيداً، على رغم اضطراب علاقتها مع الحكومة الروسية، على خلفية "التمرّد" الذي قاده زعيمها، يفغيني بريغوجين. ودلّت على ذلك، تصريحات لهذا الأخير، عبر قناة "أفريك ميديا"، في الـ19 من الجاري، أكّد فيها أن برامج "فاغنر" في أفريقيا "لن تُقلَّص راهناً أو مستقبلاً"، وأن مجموعته ستواصل العمل في الدول التي تتواجد فيها، وأنها مستعدّة للدخول في اتّفاقات جديدة (مع الحكومات المعنية) للمساعدة في "مواجهة العصابات والإرهابيين وحماية مصالح شعوب تلك الدول". وجاءت هذه التصريحات لتؤكد ما قاله وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أخيراً، في هذا الصدد، ولتنفي الشائعات التي تحدّثت عن انسحاب المجموعة أو تقليص حجم أنشطتها، على خلفية أزمتها الأخيرة مع الكرملين.
«فاغنر» وأجندة «الناتو» الدفاعية في أفريقيا
بادرت "فاغنر"، منتصف الشهر الجاري، بالتزامن مع إرسال المئات من عناصرها إلى جمهورية أفريقيا الوسطى لتأمين الاستفتاء على الدستور المرتقب في هذا البلد، يوم 30 تموز، وفي إطار ما وصفته هي بـ"التدوير" المعتاد لعناصرها، عملياً، إلى نفي التقارير الإعلامية الغربية التي تحدّثت، أخيراً، عن انسحاب "أعداد غير معروفة من عناصر فاغنر". وجاءت الخطوة أيضاً بعد أقلّ من أسبوع من إعلان قمّة "الناتو" في العاصمة الليتوانية فيلنيوس (11 تموز) بيانها الختامي الذي تضمّن "أجندة" الحلف تجاه أفريقيا، لتزيد من مخاطر اتّساع خط المواجهة بين الجانبَين في المستقبل القريب؛ إذ تحدّث البيان عن الأثر المباشر للصراع والهشاشة وعدم الاستقرار في أفريقيا، على أمن "الناتو" وشركائه. وعدَّ "الأطلسي"، إقليم الساحل (إلى جانب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) ضمن حدوده الجنوبية التي تواجه تحدّيات أمنية وديموغرافية واقتصادية وسياسية متشابكة، يزيد من حدّتها "أثر التغيّر المناخي، والمؤسّسات الهشّة، والطوارئ الصحية، وغياب الأمن الغذائي"، وهو ما يوفّر - وفق نص البيان - "بيئة خصبة لانتشار الجماعات المسلّحة، ويفسح المجال أمام تدخُّل منافسي الحلف، ولا سيما روسيا التي تغذّي التوتّر وعدم الاستقرار" في هذه الأقاليم. كما تعهّد الحلف (الذي ركّز برنامجه لبناء القدرات الدفاعية أفريقيّاً، في كلّ من موريتانيا وتونس) بتعميق تعاونه مع "الاتحاد الأفريقي" في هذا السياق.
وبدت خطوات "فاغنر"، سواء في جمهورية أفريقيا الوسطى أو في مالي حيث من المقرَّر سحب قوات الأمم المتحدة بالكامل بحلول نهاية العام الجاري، بناءً على طلب باماكو، مكمّلةً لما أعلنه بريغوجين في المقابلة المشار إليها من إنهاء عمل عناصر قواته في أوكرانيا، والتوسّع في مهامّها أفريقيّاً. وفي المقابل، باتت رؤية "الناتو" للأزمات الأمنية في أفريقيا ودولها، محصورة في النظرة البالغة القصور، والقائمة على افتراض حزمة من "التحدّيات" التي تحفّزها بيئات "غير مؤاتية"، وتستثمر فيها كلّ من الصين وروسيا بشكل مباشر. ويفضي هذا الاستقطاب بين تحفّز "فاغنر" للتوسّع، واستمرار "الناتو" في تبنّي سياسات "دفاعية" سطحية للغاية لا تسبر أغوار المشكلات وجذورها الحقيقية، إلى توقّع اتّساع خطوط المواجهة بينهما وامتدادها إلى دول أخرى داخل حزام الساحل ووسط أفريقيا أو خارجه، مثل الكاميرون وأوغندا وجمهورية الكونغو الديموقراطية حيث تُرتقب استعانة هذه الدول بخدمات "فاغنر". ولن يقدّم "الناتو" مساعدات دفاعية في شكل بناء القدرات الدفاعية لدول أفريقية حتى منتصف عام 2024، باستثناء موريتانيا وتونس، ما يعني استمرار الوضع الأمني الهشّ في القارة على حاله، وترجيح تمدُّد "فاغنر" انطلاقاً من قواعد وجودها الحالية.

«فاغنر» والعامل الصيني في أفريقيا
على رغم تراجع حضور بكين المباشر في العديد من الأزمات الجارية في القارة الأفريقية، ثمّة مؤشرات متزايدة إلى وجود صلات قائمة، وقابلة للتطوير، بين أنشطة "فاغنر" وخريطة النفوذ الصيني في القارة الأفريقية، ولا سيما في مناطق التعدين التي تعمل فيها شركات صينية، والتي تتركّز بدورها بشكل كبير في خمس دول، هي: غينيا وزامبيا وجنوب أفريقيا وزيمبابوي وجمهورية الكونغو الديموقراطية. وجاءت هذه الصلات تحصيلاً لمقتضيات الأعمال على الأرض، وبغضّ النظر عن مدى عمق الارتباط الصيني - الروسي في أفريقيا عبر عدّة روافع، من مثل مجموعة "بريكس". واتّضح ذلك أخيراً في قيام عناصر "فاغنر" بإنقاذ عدد من عمّال المناجم الصينيين في مدينة بامباري في جمهورية أفريقيا الوسطى (مطلع الجاري) وإجلائهم إلى العاصمة بانغي. وكان لافتاً تعليق مصادر عسكرية صينية على العملية (13 تموز) بأنها أمر شائع للغاية أن "تطلب الشركات الصينية الحكومية والمملوكة للدولة، المساعدة من قوات الأمن الخاصة لحماية المواطنين الصينيين والأصول الخارجية المملوكة لهذه الشركات"، وكذلك تعليقات عناصر من "القوات الخاصة الصينية" بأن طلب مساعدة "فاغنر" في الحادث "أمر عارض"، وأن المجموعة ليست الشركة الوحيدة التي تتعامل معها الصين (شركات التعدين والبنية الأساسية وغيرها) في أفريقيا.
تترقّب الدول الغربية ما تصفه وسائل إعلامها بعملية إعادة هيكلة «فاغنر» في أفريقيا، وليس تصفيتها


على أيّ حال، وفي تصرّف متوقّع، حظي الحادث باهتمام إعلامي واضح من قِبَل "فاغنر" التي نشرت صور جنودها مع العمال الصينيين، مع ملاحظة مهمّة، وهي أن هذه العملية مثّلت أهمية فائقة للمجموعة الروسية ومنحتها أفضلية على منافسيها من شركات المرتزقة المماثلة. وتكشف القراءة السريعة لخريطة نفوذ شركات التعدين الصينية في أفريقيا (وهامشية هذا النفوذ في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي تحديداً) عن احتمالات انخراط "فاغنر" في أنشطة لحماية تلك الشركات، خاصة في غينيا وجمهورية الكونغو الديموقراطية اللتين تجاوران بدورهما أهمّ دولتَين أفريقيتَين يتركّز فيهما نفوذ "فاغنر": مالي وأفريقيا الوسطى.

«فاغنر» من أوكرانيا إلى أفريقيا: الاستجابة الغربية
أقرّت الحكومة البريطانية (20 الجاري)، وفي سياق التصعيد الغربي ضدّ "فاغنر"، عقوبات استهدفت 13 فرداً وشركة على صلة بـ"أعمال مجموعة فاغنر الروسية، بما فيها إعدامات وتعذيب في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتهديدات للسلام والأمن في السودان"، وشملت 3 من أبرز قادة المجموعة العسكريين في البلدَين الأفريقيَّين، أبرزهم فيتالي بيرفيلف (رئيس المجموعة في جمهورية أفريقيا الوسطى)، وقسطنطين بيكالوف (رئيس العمليات في الدولة نفسها، والذي يوصف باليد اليمنى لبريغوجين). كما شملت العقوبات، التي فرضت تقييد حرّيتهم المالية عبر منع مواطني المملكة المتحدة وبنوكها من التعامل معهم، وتجميد أيّ أصول لهم في البلاد ومنعهم من السفر، شركة "مروي غولد" التابعة لشركة "M-Invest"، "لتهديدها السلم والاستقرار والأمن في السودان" و"توريدها معدّات شملت أسلحة وطائرات هليكوبتر وشاحنات عسكرية" إلى هذا البلد.
وتترقّب الدول الغربية ما تصفه وسائل إعلامها بعملية إعادة هيكلة "فاغنر" في أفريقيا ("بروكينغز"، 19 تموز)، وليس تصفيتها - كما توقّع عدد من المراقبين في خضمّ الأزمة الأخيرة بينها وبين الكرملين. وعلى رغم أن "إعادة الهيكلة" هذه لم تتّضح ملامحها بعد، فإن طبيعة أدوار "فاغنر" وصِلتها بحكومة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لا ترجّح حدوث تراجعات في المعادلة القائمة، ولا سيما أن الدول الأفريقية باتت أكثر انفتاحاً على قبول أدوار لـ"فاغنر" داخل حدودها. كما أن مبادرة وزير الخارجية الروسي إلى طمأنة "قائد الجيش الوطني الليبي"، خليفة حفتر، في نهاية حزيران الماضي، في شأن استمرار وجود نحو 1000 عنصر من قوات "فاغنر" لدعمه، تشير إلى مستوى التنسيق بين الشركة وموسكو، وصعوبة توقّع تفكيكها.
وفي مقابل التوسّع المرتقب لـ"فاغنر" في أفريقيا، فإن الاستجابة الغربية ستكون أكثر قوّة من ذي قبل، وربّما يتّضح ذلك في نجاح الجهود الغربية في الحيلولة دون حضور بوتين قمّة "بريكس" التي تستضيفها جنوب أفريقيا الشهر المقبل، وحضور وزير خارجيته كحلّ وسط لتفادي التعقيدات المتعلّقة بـ"المحكمة الجنائية الدولية" التي تتّهم الرئيس الروسي بارتكاب "جرائم حرب". ويُتوقّع أن يستمرّ الاستقطاب بين "فاغنر" والغرب (كأحد مظاهر توتّر علاقاته مع روسيا في أفريقيا) بالديناميات الراهنة وجنوح المجموعة للعب دور أكبر لحماية المصالح الروسية ومصالح حكومات الدول الأفريقية المعنيّة، وكذلك بعض القوى الدولية والإقليمية ذات النفوذ في القارة الأفريقية، وفي مقدّمها الصين والإمارات.

خلاصة
باتت أفريقيا ساحة "مثالية" لأنشطة مجموعة "فاغنر" من جهة خدمة هذه الأنشطة لمصالح شركات التعدين الدولية والمحلّية، ودعم مواجهة الحكومات الأفريقية المعنيّة للجماعات المسلّحة والإرهابية، وتعزيز استراتيجيات روسيا في أفريقيا سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ومع ابتعاد أفق تسوية الأزمة الروسية - الأوكرانية لاعتبارات مختلفة، فإن تمدُّد عناصر المجموعة في أفريقيا بات السيناريو الأقرب، وسط توقّع لجوء الولايات المتحدة وأهمّ حلفائها في أوروبا، لمواجهات جادّة ترتبط بأهدافها الاستراتيجية أكثر من ارتهانها بتصوّرات وسياسات الدول الأفريقية المعنيّة.