مثّلت المصادقة على قانون إلغاء «ذريعة عدم المعقولية» متغيّراً مفصلياً في الواقع السياسي الداخلي الإسرائيلي، وشكّلت محطة تأسيسية سيكون من شأن ردود الفعل عليها على المستويات كافة، القضائي والجماهيري والأمني، أن تحدّد مستقبل الوضع في الكيان ومدى انعكاسه على أمنه القومي. وبعدما بات تقسيم الكيان إلى أربع «قبائل» رائجاً، أعاد الفرز والضمّ المستجدّان إنتاج «قبيلتين» اثنتين على خلفية الموقف من «التعديلات القضائية». ومع أن هذا الفرز يفتح على مروحة من السيناريوات المتفاوتة، إلّا أن ثمّة قدراً متيقّناً متمثّلاً في تعمّق التصدّعات بين القطاعات السياسية والاجتماعية، واشتداد الكراهية بينها، وتجاوز اتهاماتها المتبادلة كلّ السقوف. وفي المحصّلة، فإن كلّ ما يَجري يدفع نحو نقطة اللاعودة، والتي تكمن خطورتها الكبرى في تحقّقها في ظلّ تحولات إقليمية ودولية تصبّ في مصلحة أعداء إسرائيل.في التفاصيل، تَجدر الإشارة إلى أن قانون تقليص صلاحيات المحكمة العليا، لم يدخل حيّز التنفيذ حتى الآن، في انتظار أن تقول المحكمة كلمتها النهائية في هذا الشأن، ويتحدّد في ضوء موقفها مسار الأحداث. وكانت توالت طلبات الالتماس بهدف إحباط محاولة تحوّل البند إلى أمر واقع بقوّة القانون، فيما اعتبر رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أن لا صلاحية للمحكمة تخوّلها التدخل في قوانين الأساس. ومن هنا، تشكّل واقع قانوني إشكالي، وسط ترقّب لقرار «العليا» التي إن بادرت إلى إلغاء قانون «الكنيست»، فستدخل إسرائيل في أزمة دستورية تنسحب تداعياتها على قطاعات المجتمع كافة، كوْن الإلغاء من شأنه أن يقطع الطريق على مشروع اليمين، ويُعمّق الانقسام السياسي والشعبي ليمتد إلى داخل المؤسسات، بما فيها الأمنية. أيضاً، من شأن هكذا خطوة أن تولّد واقعاً يستند فيه كل طرف إلى شرعية خاصة: المعارضون إلى شرعية قضائية قانونية يمثلها قرار المحكمة، والمؤيدون إلى شرعية سياسية تمثلها المؤسسات المنتخَبة. وفي هذه الحالة، ستدخل إسرائيل في السيناريو الأخطر، المتمثّل في الانقسام الشامل الذي قد يؤدي إلى تقويض المؤسسات، مع ما يعنيه هذا من نفق مُظلم.
أمّا في حال امتنعت المحكمة لسببٍ أو لآخر عن إلغاء «قانون المعقولية»، فلن يبقى أمام المعارضة سوى تصعيد خطواتها، في كل اتجاه، لمنع تحوّل القانون إلى أمر واقع. وضمن هذا الإطار، أتت دعوة رئيس المعارضة، يائير لبيد، جنود الاحتياط إلى تجميد خطواتهم العملية حتى تبحث «العليا» الالتماسات ضدّ إلغاء القانون. وبحسب صحيفة «هآرتس»، فإن بعض الطيارين والملاحين قرّروا الالتزام بهذا التوجيه، «فيما دفع الغضب والحزن آخرين للقيام بخطوة فورية». وعلى المقلب المضاد، جاءت رسالة نتنياهو التي طغت عليها نبرة المنتصر، لإظهار حجم تصميمه وقدرته على تمرير القوانين، ومحاولة جرّ المعارضة إلى حلول مسقوفة، واحتواء غضب الشارع. إلا أنه يُخشى أن يكون فات أوان أي تسوية، وهو ما انعكس جلياً في وسائل الإعلام، التي رَاوحت عناوينها بين الحديث عن «دولة ممزّقة»، مروراً بوصف ما جرى بحرب استنزاف، وصولاً إلى بداية مرحلة «ما بعد جيش الشعب»، في إشارة إلى انتقال الانقسام إلى داخل الجيش، والحديث عن أن الشعب قد هُزم في هذه المعركة وانتصر المتعصّبون. لكنّ المعلق السياسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت» دعا قضاة المحكمة العليا إلى أن «لا يرفّ لهم جفن» في قرار إلغاء القانون، فيما اعتبر المعلق العسكري في «هآرتس»، عاموس هرئيل، أن الطوفان قد بدأ، وأن عناصر الاحتياط ينفّذون تهديداتهم بعدم الالتحاق بالخدمة.
تتوالى المؤشرات التي تعزّز السيناريو المرعب لإسرائيل


إزاء ذلك، ثمّة أسئلة كثيرة على طاولة المعارضة، ستشكّل الإجابة عليها مدخلاً لتحديد خياراتها في المرحلة المقبلة. ويتمحور أبرز هذه الأسئلة حول مدى تصميم نتنياهو وحكومته على المضيّ في مغامرة التعديلات القانونية، على الرغم من كل المخاطر التي أظهرتها الاحتجاجات. وفي هذا الإطار، يتهم المعارضون نتنياهو بدفع إسرائيل نحو الانهيار مقابل نجاته هو من المحاكمة والسجن، وبأن شركاءه يستغلونه لتمرير مخطّطاتهم الإيديولوجية. والواقع أن أداء رئيس الحكومة وشركائه يؤشر إلى صوابية تلك الاتهامات، خاصة لناحية عدم الإصغاء إلى تحذيرات رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، أهارون حاليفا، ورئيس شعبة العمليات، عوديد باسوك، من «أنه إذا تحقّقت تهديدات عدم الامتثال في خدمة الاحتياط، فإن كفاءات الجيش الإسرائيلي ستتضرر»، ومخاوفهم من تسرّب الاحتجاجات في الاحتياط إلى ضباط في الخدمة الدائمة. وإذ يعكس هذا التطنيش استمرار اطمئنان نتنياهو إلى محدودية التداعيات الحاصلة، فهو يشي باحتمال تدهور الأمور نحو سيناريو أشدّ خطورة.
في كل الأحوال، تتوالى المؤشرات التي تعزّز السيناريو المرعب لإسرائيل. وفي هذا الإطار، نقل المعلق العسكري لـ«القناة 13»، ألون بن ديفيد، عن رئيس أركان الجيش، هرتسي هليفي، قوله إنه مع «كل يوم يمر يحصل انخفاض في كفاءة سلاح الجو، لأن الأشخاص القدماء، المجرّبين، هم الذين ينفذون المهمات الأكثر تعقيداً في الأسراب، وكل أسبوع لن يطير فيه هؤلاء الأشخاص فإن كفاءتهم ستنخفض ولا يوجد لهم بديل». وأشارت قناة «كان»، بدورها، إلى أن ثمة خشية في الجيش «من استقالات «صامتة» لضباط ممتازين في شعبة الاستخبارات وسلاح الجو». وفي الاتجاه نفسه، كشف أور هيلر في «القناة 13»، أن القادة يتلقّون «الرسائل التي يرسلها جنود الاحتياط من سلاح الجو أو في شعبة الاستخبارات، وأيضاً في جهاز العمليات الخاصة، والتي يقولون فيها إنهم لن يأتوا إلى الاحتياط في شهر آب». أما رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء عاموس مالكا، فقال لقناة «كان» العبرية: «بكيت اليوم كما لم أبكِ في جنازة والدي».