سريعاً، تتدحرج تداعيات انسحاب روسيا من «اتفاق الحبوب»، مِن بُعدها السياسي، نحو بُعدٍ عسكري أكثر خطورة. والظاهر أن انسداد أفق المواجهة السياسية في شأن هذا الاتفاق، والتي «تمترست» فيها موسكو خلف مطالبها باستثناء «البنك الزراعي» الروسي من العقوبات، والسماح بإعادة ربْطه بنظام «سويفت» للتحويلات المالية الدولية، في مقابل إصرار أوكرانيا، ومن خلفها الغرب، على عدم الخضوع لِما سمّياه «ابتزازاً روسيّاً»، هو بالضبط ما دفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لاحقاً، إلى إعادة النظر في مجمل الوضع الراهن في البحر الأسود، من بوابة استعراض قوّة بلاده في ذلك الحوض المائي الاستراتيجي. استعراضٌ تجلّى، من جهة، في تكثيف وتيرة استهداف مدينة أوديسا الأوكرانية خلال الأيام القليلة الماضية، باعتبارها إحدى آخر المناطق الواقعة بيد أوكرانيا على سواحل البحر الأسود، جنوب البلاد، ومن جهة أخرى، في مناورات نفّذها الجيش الروسي في الـ21 من الشهر الجاري على مهامّ إغلاق منطقة بحرية وتوقيف سفن وضربها بصواريخ سطح - سطح. وضمن «السياق التصعيدي» ذاته، جاء إعلان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وقْف العمل بما يسمّى «الضمانات الأمنية» المدرجة ضمن الاتفاق.على أن ثمّة مَن ربط بين القرار الروسي، وبين التحوّلات الأخيرة التي سُجّلت في الموقف التركي، بينما اعتبره آخرون ردّاً مباشراً على هجوم أوكراني استهدف جسر كيرتش في القرم، وخصوصاً أن إعلان الانسحاب جاء بعد ساعات من الهجوم المنفَّذ بقوارب مسيّرة. على أن إعلان روسيا ضبط سفينة حبوب مدنية كانت في طريقها من تركيا إلى ميناء «روستوف» الروسي، وعلى متنها مواد عسكرية كما قالت، حمل رسالة امتعاض شديدة اللهجة من «الشطحات» التي بادر إليها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، على رغم ما أشاعته وسائل إعلام تركية حول عزم أنقرة أخذ مسألة «الضمانات الأمنية» لحركة السفن المدنية في البحر الأسود على عاتقها، والشروع في توفير حماية عسكرية للسفن المتّجهة مِن وإلى الموانئ الأوكرانية. وعلى أيّ حال، يبدو بعد مرور قرابة نحو عام على «هدنة غير معلنة» في منطقة عمليات «الأسود»، وتحديداً منذ تدمير الطراد «موسكو» في نيسان 2022، ومن ثمّ توقيع «اتفاق الحبوب»، أن هذه المنطقة تحوّلت إلى مسرح لتبادل رسائل التصعيد.

رهانات روسيا الأوكرانية: الانتصار لا يزال ممكناً!
فصول التصعيد الروسي - الأوكراني بشقّها البحري، والتي أجّجها مقتل صحافي روسي أخيراً على جبهة زابوروجيا بنيران قوات كييف، والقصف الروسي لإحدى صوامع الحبوب في أوديسا، ومستودعات للذخيرة والوقود في ميكولاييف، إلى جانب ما رافقها من مزاعم للطرفَين عن تحقيق تقدُّم على جبهات الشرق والجنوب، فَتحت المجال للحديث عن خطوات جديدة قد يكون صانع القرار في موسكو في صدد اتّخاذها أو العمل على دراستها. ففي ما يخصّ الوضع في الميدان، يبدو أن روسيا استفادت من «دروس الحرب»، بعد تخلّيها عن «استراتيجية الهجوم الشامل»، وتحوُّلها، على مدى الأشهر الأخيرة، إلى التركيز أكثر على تحصين موقفها الدفاعي، وهو أمر أثبت نجاعته في كبح جماح القوات الأوكرانية. كذلك، تشي البيانات الصادرة أخيراً عن وزارة الدفاع الروسية، بخصوص رفع معدّلات الإنتاج العسكري للبلاد بوتيرة أعلى من العام الماضي، توازياً مع رفع عديد الجيش الروسي قبل أشهر، بـ«تكييف» آلة الحرب نفسها مع ظروف الحرب، التي تتّسم باستهلاك مكثّف للذخائر، وربّما تعكس «ميلاً احتياطيّاً» لدى موسكو إلى إعادة الزخم لعملياتها الهجومية، أو ربّما لإمكانية توسُّع الحرب، بخاصّة على الجبهة البحرية، ربطاً بمديات التصعيد الغربي ضدّها عبر كييف، التي دأبت أخيراً على شنّ هجمات بحرية عبر قوارب مسيّرة ضدّ القطع البحرية الروسية، وإرسال مسيّرات هجومية في اتّجاه العمق الروسي، كان آخرها تلك التي استهدفت أحد مباني وزارة الدفاع في موسكو.
وبحسب محلّلين، فإن الحرب بين كييف وموسكو تحتمل ثلاثة سيناريوات: أوّلها، ينطلق من أرجحيّة بقاء حالة المراوحة الميدانية القائمة حالياً، بين هجمات كرّ وفرّ محدودة على بعض المحاور الرئيسة للقتال، مع استبعاد أيّ فرص للتسوية؛ والثاني، يتمثّل في إمكانية التوصّل إلى تسوية سياسية تضمن لموسكو الاعتراف من جانب كييف وداعميها الغربيين بالمناطق التي ضمّتها الأولى (لوغانسك، ودونيتسك، وزابوروجيا، وخيرسون، فضلاً عن شبه جزيرة القرم)، وهو سيناريو تعزّزه عوامل متّصلة بانتقاٍل محتمل للسلطة في واشنطن، بحلول الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2024، وبمدى استدامة دعم أوكرانيا ماليّاً وعسكريّاً (كمّاً ونوعاً) من قِبَل الأوروبيين. وفي هذا الإطار، يحضر الجدل المستمرّ في أوساط النخبة الغربية، بين معسكر «الدعم المفتوح» لحكومة فولوديمير زيلينسكي من منطلق ضرورة الوقوف في وجه روسيا لردعها ومن سواها ممَّن يسمّون بـ«القوى المطالِبة بإعادة النظر في النظام الدولي القائم»، وبين معسكر «الدعم المشروط»، من باب النظر إلى الحرب الدائرة كـ«حدث معزول» يمكن حصر تبعاته السلبية ضمن أضيق نطاق جغرافي ممكن، وهو تيار يشدّد على أهميّة التحلّي بواقعية في طرْح المطالب العسكرية المتعلّقة بأوكرانيا، انطلاقاً من عملية احتساب دقيقة لتكاليف الحرب والمخاطر المصاحبة لها. أمّا السيناريو الأخير، فيقوم على احتمالات نجاح أحد الطرفَين في حسْم الصراع نهائيّاً لمصلحته، وهو ما يبدو متعذّراً، إن لم يكن مستحيلاً؛ إذ يجد كلّ منهما صعوبة في انتزاع السيطرة على أراضٍ واسعة جديدة منذ قرابة العام، كما يبدو جليّاً في المعارك الحالية الدائرة على تخوم باخموت.
إزاء ذلك، ترى مجلة «فورين أفيرز» أن بوتين لا يزال يأمل في إمكانية تحقيق أهداف «العملية العسكرية الروسية الخاصة»، ودفع أوكرانيا نحو الإقرار بالوقائع الجديدة، واضعةً تعليق مشاركة بلاده في «اتفاق الحبوب» ضمن هذا الإطار. وبحسب خبراء غربيين، فإن الإخفاقات العسكرية الروسية، وحُزم العقوبات الغربية المتتابعة ضدّ موسكو، فضلاً عن المكاسب العسكرية لكييف في مرحلة من المراحل، كلّها لم تُقنع الروس بالعدول عن أهدافهم، لا بل إن بوتين يبدو أكثر إصراراً على تحقيق تلك الأهداف، معوّلاً على تحسُّن أداء القوات الروسية خلال العام الجاري، وخصوصاً بعد التوسُّع في استخدام تكتيكات الكمائن، بالتوازي مع حفر الخنادق وزرع الألغام، إضافةً إلى استغلال الثغرات في منظومة الاتصالات التابعة للقوات الأوكرانية لمحاولة كشف تحرّكاتها بصورة مسبقة. وممّا يضاعف شهيّة الحرب لدى «القيصر» أيضاً، إعلان خصومه الغربيين أخيراً نيّتهم إدخال أوكرانيا في عضوية «الناتو» فور انتهاء الحرب.

ضغوط أميركية على كييف: الوقت يضيق
على رغم إقرار مسؤولين أميركيين وأوكرانيين، ضمناً، بإخفاق «هجوم الربيع» ضدّ القوات الروسية، كشفت صحيفة «واشنطن بوست»، أخيراً، عن ضغوط تمارسها واشنطن على كييف، لمعاودة تكثيف هجماتها ضدّ الروس، وفق التكتيكات التي تمّ تدريب قوات الأخيرة عليها في قواعد «الناتو» على مدى الأشهر القليلة الماضية، ولا سيما بعد قرار الولايات المتحدة مدّ حليفتها بالقنابل العنقودية، وسماحها لدول غربية بنقل مقاتلات أميركية الصنع إليها. ما سبق، يَحمل دلالات على تجدُّد الرهانات لدى إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، على إمكانية تحقيق اختراقات في الدفاعات الروسية في وقت قريب، مع أن مكاسب الأوكرانيين الميدانية لا تزال ضمن نطاق لا يتجاوز 160 كيلومتراً مربّعاً. ونقلت الصحيفة عن مسؤول أميركي قوله إن «الولايات المتحدة، إلى جانب دول أخرى، قامت بتدريب القوات الأوكرانية على تنفيذ مناورات عسكرية عبر تكتيكات تدمج بين مختلف صنوف الأسلحة» في الآونة الأخيرة، وإن الأوكرانيين حصلوا على معدّات تعينهم على مكافحة «عوائق» الألغام الروسية.
تتخوّف الدوائر الأكاديمية والسياسية الغربية من سيناريوات، تضطرّ معها روسيا لاستكمال تضييق الخناق على سواحل أوكرانيا


وبحسب الصحيفة، فإن مطالب الغرب تنحصر في ضرورة تغيير استراتيجية الاستنزاف المعتمدة من الجانب الأوكراني منذ مطلع حزيران الماضي، والقائمة أساساً على ضرب خطوط الإمداد والتحصينات الأمامية والمواقع الخلفية للقوات الروسية من خلال المدفعية والصواريخ، توازياً مع شنّ هجمات محدودة وبطيئة عبر مجموعات يُراوح عدد أفرادها بين 15 و50 فرداً، على أمل دفع الأوكرانيين إلى تنفيذ عمليات عسكرية واسعة منسّقة بين سلاحَي المدفعية والمدرّعات، من دون استبعاد مشاركة سلاح الجو عند الحاجة. وبالفعل، وبعد أيام من وصول إمدادات عسكرية إلى أوكرانيا، ضمن حزمة مساعدات أميركية جديدة تم الإعلان عنها قبل نحو أسبوعين، وشملت أنظمة مدفعية ودفاعاً جوياً، شهدت الساعات الماضية تكثيف وسائل الإعلام الغربية تغطيتها لهجوم أوكراني على الجبهة الجنوبية. ووفق التقارير الغربية، فقد دفعت كييف خلال الهجوم بقوات مدرّبة، كانت تتحاشى حتى وقت قريب الزجّ بها في الميدان، بعد فترة من الاضطرار إلى إيفاد عناصر قليلة الخبرة والتدريب إلى الجبهات، ضمن 4 ألوية من أصل 12 لواءً جرى تحضيرها لـ«الهجوم المضاد».

هل يتحوّل البحر الأسود إلى بؤرة نار؟
أمّا على مسرح عمليات البحر الأسود، تتخوّف الدوائر الأكاديمية والسياسية الغربية من سيناريوات، تضطرّ معها روسيا لاستكمال تضييق الخناق على سواحل أوكرانيا، بخاصة ميناءَي أوديسا وميكولاييف، إلى الغرب من القرم، بعد إحكام سيطرتها، في وقت سابق، على كل الساحل الأوكراني، من بحر آزوف (المتفرّع من البحر الأسود)، إلى الشرق من شبه الجزيرة، وهو أمر لن يكون سهلاً على كييف، كوْن صادراتها الزراعية تمثّل نحو 9% من الناتج المحلّي للبلاد. ومن هنا، يمكن فهم مسارَعة رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، إلى مساندة موقف حكومة زيلينسكي الداعي إلى مواصلة الالتزام بـ«اتفاق الحبوب»، واحترام «مبدأ حرية الملاحة» في المياه الدولية.
ووفق موقع «ستراتفور» الاستخباري، فإن رفض روسيا مواصلة العمل بالاتفاق، الذي لا يحظى بتأييد واسع في أوساط الروس، قد يفتح المجال أمام عملية عسكرية روسية تفرض وقف صادرات الحبوب الأوكرانية، وذلك عبر ضرب السفن المدنية المتّجهة من وإلى أوكرانيا، وهو ما قد يمهّد لفرض حصار بحري شامل على أوكرانيا. وفي هذا الإطار، يرى الخبير في شؤون الأمن والإستراتيجيا البحرية في «معهد السياسة الأمنية» التابع لجامعة «كيل»، سيباستيان برونز، أن أحداث الأيام الأخيرة «تشكّل استدارة أخرى من جانب بوتين لتوسيع الحرب بحراً»، معتبراً أن الأخير «يسعى خلف سبل إضافية لترهيب الغرب». وينبّه الأدميرال الأميركي المتقاعد، جيمس فوغو، بدوره، إلى أن مهاجمة السفن المدنية ترقى إلى أن تكون «استحضاراً لوقائع الحرب العالمية الأولى، وتكراراً (محتملاً) لمجرياتها لدى ضرب السفينة لوزيتانيا»، في إشارة إلى السفينة البريطانية التي أغرقها الألمان عام 1915 والتي كانت سبباً في إعلان الولايات المتحدة الحرب على ألمانيا. ويحذّر قائد القوات البحرية الأميركية السابق في آسيا وأفريقيا، من أن وقوع هكذا سيناريو «سيُعدّ بمثابة انزلاق نحو صراع أشدّ خطورة». وبينما اكتفى «الناتو»، في مواجهة التهديدات الروسية، بإعلان تعزيز تدابير الحلف الرقابية في البحر الأسود، أعرب السفير الأميركي السابق لدى الحلف، كورت فولكر، عن اعتقاده بأن تراجع واشنطن عن مساندة «مبدأ حرية الملاحة» في المياه الدولية، على رغم وجود ثلاث دول في «شمال الأطلسي» مشاطئة لـ«الأسود»، ناجم عن عدم رغبتها في مواجهة موسكو.