ما كادت الانتخابات الرئاسية في تركيا تنتهي، حتى سارع الرئيس رجب طيب إردوغان إلى توظيف انتصاره، لولاية ثالثة، في السياسة الخارجية، بجولةٍ مكثّفة غير مسبوقة قام بها إلى العديد من الدول، فضلاً عن مشاركته في مناسبات دولية، والأهمّ، بجملةٍ من المواقف عالية السقف التي عُدّت "تنقيحاً" لمرحلة سابقة وبدايةً لمرحلة جديدة. وعلى الرغم من "زخم الانتصار" الذي تقصّد إردوغان حمْله معه، غير أن الموقع الحسّاس لتركيا في التوازنات الإقليمية والعالمية، والتي أُرسيت على مدى سنوات، لا يسمح لها بأن "تتلاعب" فجأةً بها، من دون أن تترك تأثيراتها - على غرار حجارة الدومينو - على أكثر من قضيّة، وأوّلها تأجيل أو إلغاء الزيارتَين اللتَين كان مقرّراً أن يقوم بهما إلى أنقرة، كلّ من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، الأسبوع المنصرم؛ يضاف إليهما "الفتور" الذي ظهر على العلاقات الروسية - التركية، في مواقف إردوغان "الأطلسية" التي أثارت استياء موسكو.وعلى رغم الاستعدادات في كل من القاهرة وأنقرة، تأجّلت الزيارة التي كان مقرّراً أن يقوم بها السيسي إلى تركيا، الخميس الماضي، للقاء نظيره إردوغان. والتأجيل ليس بالأمر غير المعتاد في العلاقات بين الدول، ولكن ما جرى كان مفاجئاً، إذ لم يتمّ بعد توضيحه، لا من قِبَل القاهرة ولا من جانب أنقرة. والمثير للاستغراب، أن العاصمتَين تحدّثتا عن موعد الزيارة في وقت مبكر من شهر تموز الجاري، فانهالت التعليقات من جانب وسائل الإعلام والمراقبين لدى الطرفين، لتحليل الزيارة وأهميّتها في ضوء القطيعة في العلاقات بين البلدَين، منذ عام 2013، . ومّما بدا مثيراً للانتباه أيضاً، أن كمّ التعليقات، الذي استبق الزيارة، تلاشى تماماً في وسائل الإعلام الموالية لإردوغان بعد تأجيلها.
وفي هذا الجانب، تلفت صحيفة "قرار" المعارضة إلى أن تركيا شهدت، الأسبوع الماضي، ثلاثة أحداث سلبية في مساعيها إلى وصْل الخيوط مع الآخرين، في إطار سياسة الانفتاح الجديدة: الأول، هو تأجيل زيارة بنيامين نتياهو، وهي الأولى التي كان سيقوم بها إلى تركيا منذ أن أصبح رئيساً للوزراء قبل أكثر من عشر سنوات، وقد عُزي التأجيل إلى أسباب صحيّة، علماً أنه جاء في أسبوع الحسم حول التعديلات القضائيةـ والانقسام في الداخل الإسرائيلي. وإذا كان هذا الأمر مبرّراً إلى حدّ كبير، لكن الزيارة كانت لتشكّل أهميّة استثنائية في العلاقات بين البلدَين؛ والثاني، تقول الصحيفة، هو تجديد الرئيس السوري، بشار الأسد، مطالبته تركيا بالانسحاب من بلاده، قبل أيّ استئناف للقاءات المصالحة بين الجانبَين، وهو ما يعني مزيداً من التعثُّر في مسار المصالحة بين أنقرة ودمشق. وتلفت الصحيفة، ثالثاً، إلى أنه بعد هذين الحدثَين، جاء قرار السيسي تأجيل زيارته لتركيا، فيما التبرير شبه الرسمي الوحيد الذي شاع في أنقرة، أن موعدها تضارب مع موعد قمّة روسيا - أفريقيا التي انعقدت في سانت بطرسبورغ يومَي 27 و28 تموز الجاري، والتي شارك فيها الرئيس المصري. ولكن هذا التبرير، برأي أوساط متعدّدة، غير مبرّر؛ لأن موعد قمّة سانت بطرسبورغ كان مقرّراً منذ مدّة، أي منذ ما قبل تحديد موعد زيارة السيسي لأنقرة، لأن مثل هذه القمم الكبيرة تحتاج إلى وقت طويل للإعداد لانعقادها. لذلك، توجّب البحث في أسباب أخرى لعدم مجيء السيسي إلى العاصمة التركية. وفي هذا الإطار، ترى مصادر تركية أن هناك سببين للتأجيل: الأول هو أن الرئيس المصري انزعج من الأخبار التي تقول إن إردوغان سيبحث مع نتنياهو سبل التعاون حول الغاز المستخرج من حقل "ليفيتان" الإسرائيلي، وما لذلك من تأثير سلبي على مصالح مصر الاقتصادية في شرق المتوسط؛ والثاني أن مصر لم تتلقَّ، إلى الآن، أجوبة في شأن مطالبها بوقف نشاط "الإخوان المسلمين" في تركيا.
ستكون الأنظار مفتوحة في المرحلة المقبلة على خطوات أنقرة المقبلة، ومنها الزيارة المزمع أن يقوم بها إردوغان إلى العراق


كذلك، تضيف أوساط تركية، أن اللقاء الذي جمع، الأسبوع الفائت، رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، إلى رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، أثار حفيظة طرفَين، هما إسرائيل ومصر. فاللقاء بينهما حصل عشيّة زيارة كانت مقرَّرة لنتيناهو إلى أنقرة، لكنها تأجّلت نتيجة انزعاج هذا الأخير من اللقاء المذكور، والذي أثار أيضاً استياء مصر، إذ ترى هذه الأخيرة أن تركيا تدخل بقوّة إلى الملعب حيث لها أولوية، ولا سيما أن لقاء أنقرة جاء قبل أيام من الاجتماع الذي بدأ، يوم أمس، بين الفصائل الفلسطينية المختلفة، باستثناء "الجهاد الإسلامي"، في مدينة العلمَين المصرية، وبرعاية الرئيس المصري نفسه. وذلك، كان من الأسباب المهمّة لتأجيل زيارة السيسي.
من جهته، يكتب مصطفى إرديمول، في موقع تلفزيون "خلق تي في" المعارض، أن إشاعة أجواء إيجابية عن تحسُّن العلاقات بين تركيا ومصر، لم يكن واقعياً، إذ إن الجانبَين مدينان للرأي العام بتقديم تفسير مقنع حول تأجيل الزيارة، وخصوصاً أنه كان يُعَدّ لها منذ أشهر. ووفق إرديمول، لم يَصدر أيّ بيان عن العاصمتَين، كما لم تُشر الصحف الموالية إلى خبر التأجيل، بعدما كانت المصادر الإعلامية والديبلوماسية في البلدَين تحدّدان التاريخ بدقّة. أما بالنسبة إلى السيسي، يقول الكاتب إن مصر كانت تنتظر أن تكون الزيارة الأولى هي لإردوغان إلى القاهرة وليس العكس. ولكن كان بإمكان الرئيس المصري أن يقوم هو بالزيارة الأولى، إذا كانت هناك ذريعة مثل حضور مناسبة معينة أو مؤتمر أو نشاط. ويضيف الكاتب أن علاقة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتبن، بالسيسي، أصبحت أكثر حرارة من علاقته بإردوغان، قائلاً إن الأول لن يقول للأخير لا تذهب إلى أنقرة، ولكن التوافق بينهما في موضوعات كثيرة وبدء مرحلة من البرودة والفتور بين بوتين وإردوغان، جعلا السيسي "يراعي" نظيره الروسي، ويرجّح خيار المشاركة في قمّة سانت بطرسبورغ على المجيء إلى تركيا. ويرى الكاتب أن القاهرة تريد تطوير العلاقات مع أنقرة، لكنها تعتقد أن تركيا لا تزال تتدخّل في شؤونها الداخلية، وهو ما يصعّب حدوث الزيارة، كما لو أن شيئاً لم يكن.
ومن بين الأسباب المتعدّدة لتأجيل زيارة السيسي، وفي ظلّ عدم صدور توضيح رسمي حول ذلك من كلا الجانبَين، وفي ضوء تأجيل زيارة نتنياهو، ومع الفتور الذي يلفح العلاقات التركية – الروسية، فإن التساؤلات تتّسع عمّا إذا كانت سياسات تركيا "الجديدة" في المصالحات الإقليمية تواجه تعثّرات. كذلك، فإن التساؤلات مطروحة حول علاقة هذا "التعثّر"، إن وُجد، وخصوصاً مع روسيا، بالمواقف التركية المستجدة والمتقاربة مع "حلف شمال الأطلسي" وأوكرانيا. وستكون الأنظار مفتوحة في المرحلة المقبلة على خطوات أنقرة المقبلة، ومنها الزيارة المزمع أن يقوم بها إردوغان إلى العراق خلال أيام، وفقاً لمعلومات عراقية شبه رسمية.