جدّد الانقلاب الذي شهدته النيجر (26 تموز الجاري) الحديث عن تراجع الدور الفرنسي والفشل الغربي في مقاربة مختلف القضايا الملحّة، ولا سيما الأمنية والعسكرية، في واحدة من أفقر دول العالم، وذلك على رغم كثافة الوجود العسكري الغربي في هذا البلد، والمقدَّر، وفق وكالة "رويترز"، بنحو 3000 جندي يتوزّعون على قواعد مختلفة في النيجر وجوارها. وممّا كشفه الانقلاب، تصاعُد الرفض الشعبي لهذه المقاربة، على مثال ما تمّ في دول أخرى في إقليم الساحل، في ما يؤشّر إلى اضطراب بنيوي في سياسات الولايات المتحدة وفرنسا وشركائهما في النيجر، والقائمة في الأساس على إطلاق أيدي شركات تعدين اليورانيوم (تنسّق أعمالها شركة "سوبامين" (Sopamin) الوطنية، التي تدير بدورها مجموعة مناجم تموّلها شركات من كندا وفرنسا والصين وكوريا الجنوبية).
الانقلاب وعامل اليورانيوم
تُصنَّف النيجر، التي لا يزيد عدد سكانها على 25 مليون نسمة وتتمتّع بموارد طبيعية متنوّعة ووفيرة أبرزها معدن اليورانيوم (5% من الإنتاج العالمي)، منذ عام 1971، ضمن لائحة أفقر دول العالم. ولم يُثِر الانقلاب مخاوف سياسية وأمنية فحسب، إذ إن توقيته، قبل أقلّ من عامين من تنفيذ اتفاقات مهمّة وقّعتها شركة "غلوبال أتوميك" الكندية لنقل اليورانيوم إلى "جهات رئيسة في أميركا الشمالية" بحلول عام 2025 وبعد نحو ثلاثة أشهر فقط من توقيع شركة "أورانو" الفرنسية القابضة اتفاقاً مع حكومة النيجر لتوسيع عمليّاتها في ثلاث مناطق عمليات إضافية، أثار أيضاً مخاوف غربية في شأن تأثيره على الأنشطة الاقتصادية الميسّرة (سابقاً) من قِبَل نظام الرئيس المعزول، محمد بازوم. كذلك، يُهدّد الانقلاب بالفعل ارتباطات بازوم الاقتصادية مع شركة "كوريا إلكتريك باور"، الوثيقة الصلة بنظيرتها الفرنسية "أورانو"، والتي عزّزت حضورها بقوّة في النيجر منذ مطلع العام الجاري، أملاًَ في توسعة غير مسبوقة لأنشطة استخراج اليورانيوم.
ويبدو أن هذه المخاوف لا تقتصر على الشركات الغربية أو التي تدور في فلكها (مثل الكورية الجنوبية، الأسترالية والهندية)، إذ ظهرت الصين بقوّة أيضاً في قطاع التعدين في النيجر، في حزيران 2023، عندما التقى بازوم برئيس شركة "ZTE energy" الصينية لتعدين اليورانيوم، لمناقشة إعادة إطلاق عمليّاتها في منجم "سومينا" (بعد توقّف دام عقداً كاملاً)، وتعزيز استثماراتها في منجم "أبوكوروم" (الذي تمتلك فيه شركات أسترالية وهندية رخص استكشاف). وتوسّعت المناقشات الصينية - النيجرية، مطلع الشهر الجاري، لتشمل خططاً لإنشاء منطقة صناعية وخط أنابيب للبترول (بين النيجر وبنين بطول 2000 كيلومتر تقوم بتطويره شركة البترول الوطنية الصينية).
وأثار الانقلاب أيضاً تساؤلات حول لَعب مجموعة "فاغنر" الروسية، المعروفة بارتباط عملياتها الأمنية بحماية المصالح التعدينية في عدة دول أفريقية من مالي إلى موزمبيق، والشركات المختلفة العاملة فيها، دوراً في الانقلاب الراهن، ولا سيما في ضوء ما ورد عن تفاهمات صينية مع المجموعة لحماية مصالح بكين في العديد من مناطق الأزمات (مثل جمهورية أفريقيا الوسطى).
وهكذا، يبدو العامل الاقتصادي، ولا سيما الاستثمارات الدولية في استخراج اليورانيوم، واضحاً في رغبة قادة الانقلاب الأخير في تحرير البلاد، مرحليّاً، ووفق المعلَن، من قبضة هذه الاستثمارات بشروطها التفضيليّة التي توجِّه أغلب العائدات إلى الخارج، ولا تسهم - على المدى البعيد - في ترقية الوضع الاقتصادي المحلّي.
ربّما يدفع الانقلاب هذه المرّة، الحكومة الفرنسية إلى تغيير سياساتها الأفريقية بشكل عام


نيامي وواشنطن: إرهاصات فكّ الارتباط
دفع الانقلاب الأخير في النيجر، الذي قام به عدد من الجنود والقادة (تلقّى أغلبهم تدريباً عسكريّاً متقدّماً في الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى)، قيادة أفريقيا الأميركية إلى التحرّك سريعاً لتنسيق العمل مع الخارجية الأميركية "لتقييم الوضع وتقديم معلومات"، فيما اكتفى الناطق باسم القيادة، جون مانلي، بإشارة مثيرة للاهتمام إلى أن الأخيرة "واعية بما يجري في النيجر"، علماً أن نيامي تُعدّ واحداً من أوثق حلفاء واشنطن في أفريقيا، إذ تستضيف كبرى قواعد "الدرونز" الأميركية في مدينة أغاديس شمالي البلاد، وفي مقابل سنوي يراوح بين 20 و30 مليون دولار، إضافةً إلى قاعدة أخرى يعمل فيها نحو ألف جندي أميركي بدوام كامل طوال العام، بما يفيد بتغييرات حادّة ستطرأ على العلاقات بين البلدَين في الأسابيع المقبلة. ودلّ على ذلك، إقدام واشنطن، بعد ساعات من الإعلان عن تشكيل مجلس عسكري انتقالي في النيجر بقيادة عبد الرحمن تشياني (28 تموز)، على خطوات عقابية موجّهة ضدّ نيامي ومجلسها الانتقالي. وفي هذا الإطار، أكد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أن بلاده تعمل على ضمان العودة الكاملة إلى النظام الدستوري في النيجر، وهي تصريحات عزّزتها أخرى للناطق باسم الأمن القومي، جون كيربي، الذي حذّر قادة الانقلاب من وقْف الولايات المتحدة أوجه التعاون العسكري، وفي المجالات الأخرى، بما في ذلك تدريب القوات المحلّية النيجرية.
ومع تصاعد الخطوات العقابية ضدّ النيجر، وآخرها مقرّرات اجتماع الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا "إيكواس" في العاصمة النيجيرية أبوجا (30 الجاري)، الذي استبقه قادة الانقلاب بإعلان إغلاق حدود بلادهم مع جميع دول الجوار السبع، يُتوقّع أن تكون للانقلاب نتائج خطيرة على الوجود الأميركي في كامل إقليم غرب أفريقيا والساحل. ويضاف إلى ما تقدَّم تداعيات التطوّرات في مالي وبوركينا فاسو والاحتمالات المرتقبة في دول أخرى، في مقدّمها تشاد، على هذا الوجود، في ظلّ جمود المقاربة الأميركية تجاه أزمات الإقليم، كما اتّضح في قمّة "الناتو" الأخيرة، منتصف هذا الشهر، من تجاهل شبه كامل لهذه الأزمات. وبشكل أكثر تحديداً، فإن الانقلاب في النيجر، والأزمات في السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا، المجاورة جميعاً لتشاد، كلّ ذلك يؤشر إلى ضغوط متزايدة على الأوضاع الأمنية في الأخيرة، التي يمكن وصْفها بقلعة فرنسا والولايات المتحدة الحصينة الأخيرة في إقليم الساحل وغرب أفريقيا، وتعاني بالفعل من تحدّيات داخلية متصاعدة ترشّحها لاضطرابات مماثلة.

انقلاب النيجر ودلالات التراجع الفرنسي
مع تطوّر الأحداث في النيجر، اتّجهت أنظار المراقبين نحو باريس، استشرافاً لموقفها من الانقلاب، وتداعياته على مصالحها، ودلالاته على مجمل علاقاتها بدول الساحل وغرب أفريقيا، إذ بادرت بتصريحات عبّرت فيها عن صدمتها من الانقلاب، الذي قالت بدايةً إنه "ليس نهائياً"، قبل أن تقرّ باكتماله مع إعلان القادة العسكريين في النيجر تكوين مجلس عسكري انتقالي، وهو ما حدا بها إلى فرض عقوبات على نيامي، أبرزها قطْع الدعم المالي، في قرار تزامن مع آخر مماثل للاتحاد الأوروبي الذي يقدّم بمفرده مساعدات لهذا البلد بقيمة 554 مليوناً، تمثّل أكثر من ربع مجمل المساعدات المالية التي يتلقّاها، ويقدّرها "البنك الدولي" بحوالى مليارَي دولار سنويّاً. ويُتوقّع أن يؤثّر قرار فرنسا، التي تخصّص نحو 97 مليون يورو دعماً للنيجر تمرّرها عبر "وكالة التنمية الفرنسية"، على الفور، وبمستويات مرتفعة، في أداء الحكومة النيجرية مع تضمين حُزم العقوبات وقفاً فوريّاً لبند دعم الموازنة.
وكشف تخبّط الموقف الفرنسي من الانقلاب، بين استهانة ملحوظة بقدرة القادة العسكريين على تمريره وإدانة كاملة للانقلاب (بعد ساعات قليلة)، عن بدء مرحلة جديدة من انحسار الدور الفرنسي في إقليم الساحل وغرب أفريقيا، وعجزها عن مواصلة دبلوماسية توظيف الأدوار الخارجية (الخليجية والألمانية تحديداً) المموِّلة لانتشارها، واقتطاع حصص مساهمة دول الساحل في العمليات العسكرية طوال قرابة عقد كامل لمصلحة القوات الفرنسية، على خلفية تقديم دعم لوجيستي وتدريبي كشفت التطوّرات اللاحقة عن تهافته.
ويُتوقّع أن يدفع الانقلاب في النيجر، فرنسا إلى مزيد من التعقيدات في المنطقة، وتراجع قدرتها على توفير حماية لمصالح شركاتها العاملة في قطاعات التعدين والطاقة والبنية الأساسية، مع ترقّب تداعياته على مشروعات خطوط أنابيب الغاز والبترول من غرب أفريقيا إلى أوروبا (وأحد أهمّ مساراتها المقترحة إلى الجزائر من نيجيريا عبر النيجر المنافس لمسار آخر من نيجيريا إلى دول غرب أفريقيا على المحيط الأطلسي وصولاً إلى المغرب ومنه إلى إسبانيا).
وفي جميع الأحوال، فإن الانقلاب يدعم بقوّة تراجع النفوذ الفرنسي، وربّما يدفع هذه المرّة الحكومة الفرنسية إلى تغيير سياساتها الأفريقية بشكل عام، والتوجّه - على المدى البعيد بطبيعة الحال - نحو تطبيق شراكات حقيقية مع الدول الأفريقية واحترام سيادتها السياسية والاقتصادية، وعدم الاكتفاء بخطابات متناقضة وغير واقعية دأب على ترويجها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي بدا آخر من يَعلم بتطوّرات الأزمة الأخيرة في النيجر.