تحوّل «ممرّ لاتشين» إلى عنوان للصراع بين آذربيجان وأرمينيا؛ فهذا الممرّ (الوحيد) الذي يصل الأخيرة بالقسم الجنوبي من مقاطعة ناغورنو قره باغ ذات الحكم الذاتي، والتابعة للسيادة الأرمينية، لا يزال مغلقاً منذ مطلع شهر كانون الأول الماضي، بعدما بادرت السلطات الآذربيجانية إلى إغلاقه، متّهمةً الأرمن بالمتاجرة غير المشروعة بثروات الإقليم عبره. غير أن الواقع يفيد بأن باكو ومعها أنقرة، تتّخذان من إغلاق «لاتشين» عاملَ ضغطٍ على يريفان، للقبول باتفاق سلام نهائي مع جارتها، سيشمل ترسيم الحدود الدولية بينهما، كما الاعتراف الكامل بسيادة آذربيجان على قره باغ، فضلاً عن تنفيذ أحد بنود اتفاق العاشر من تشرين الثاني 2020، والقاضي بشقّ طريق إسفلتي وخطّ سكة حديد بين مقاطعة نخجوان التابعة لآذربيجان والمنفصلة جغرافيّاً عنها والمتّصلة بتركيا، وبين الأراضي الآذربيجانية، عبر الأراضي الأرمينية، في ما يُعرف باسم «زينغيزور» أو «ممرّ طوران» أو «الممرّ التركي».وعلى امتداد الفترة التي أعقبت نهاية الحرب الأخيرة، تعدَّدت الاجتماعات بين مسؤولي آذربيجان وأرمينيا، وعلى أعلى المستويات. وكانت المفارقة أن أمكنة عقْد الاجتماعات تعدَّدت أيضاً، من روسيا إلى فرنسا وسويسرا، تارةً برعاية غربية، وتارةً روسية، وهو ما ساوق المواقف المتذبذبة التي لا تزال تتّبعها حكومة يريفان، برئاسة نيكول باشينيان، بين «التعاون الاضطراري» مع موسكو حتى لا تضيع كامل قره باغ وأكثر، وبين هواه الغربي الذي أفضى إلى تركه وحيداً ومن دون دعم روسيا في الحرب مع آذربيجان. وقد أدّى وقوفه ذلك الموقف إلى خسارته كلّ الأراضي التي كانت أرمينيا تسيطر عليها بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي، كما النصف الشمالي من قره باغ بكامله، فيما لم يتبقّ تحت سيطرة الأرمن - وبإشراف عسكري روسي - سوى النصف الجنوبي من الإقليم.
ولا شكّ في أنّ نتائج الحرب بين يريفان وباكو، أَدخلت تعقيدات كبرى على المشهد في القوقاز الجنوبي، بحيث أن كثرة الاجتماعات التي انعقدت لحلّ الأزمة لم تسفر، إلى الآن، عن أيّ نتيجة. ولكن الاجتماع الذي عقده في أنقرة، أول من أمس، وزير خارجية آذربيجان، جيحون بيراموف، مع كلٍّ من نظيره التركي، حاقان فيدان، والرئيس رجب طيب إردوغان، وأعقبته مواقف مهمّة لكلا الطرفَين، بدا لافتاً. إذ رأى الوزير التركي أن السلام الشامل يتطلّب توقيع اتفاق سلام نهائي بين باكو ويريفان، مؤيّداً إغلاق «ممرّ لاتشين»، لأنه «أرض آذربيجانية، ولآذربيجان الحقّ في اتّخاذ التدابير التي تراها مناسبة. إن هذا واحد من الحقوق السيادية الأكبر لآذربيجان، والانتقادات التي توجّه إليها غير محقّة». كما رأى أن «إنهاء احتلال أرمينيا للأراضي الآذربيجانية، فتح الباب واسعاً أمام تطبيع الوضع بينها وبين آذربيجان وتركيا»، داعياً إلى الانتهاء من توقيع اتفاق سلام شامل بين البلدَين، وبجهود موسكو وواشنطن وأوروبا. وثمّن فيدان مشاركة رئيس الوزراء الأرميني في احتفال تنصيب إردوغان رئيساً لتركيا، بعد إعادة انتخابه في نهاية أيار الماضي. ومن جهته، أشار بايراموف إلى أن «الأمر تطلّب سنتين ونصف سنة لكي يعترف باشينيان بسيادة آذربيجان على كلّ أراضيها، ونأمل في ألّا يستغرق الأمر وقتاً طويلاً ليوقّع اتفاق سلام نهائياً»، فيما جدّد فيدان نفي مسؤولية بلاده عن تعثّر المفاوضات بين باكو ويريفان، قائلاً إن «مسألة ممرّ زينغيزور لا علاقة لتركيا بها، وهي مسألة تتعلّق بإيران وليس بتركيا»، في إشارة إلى معارضة إيران فتح الممرّ، كونه يهمّش موقعَيها الجغرافي والسياسي. أمّا إردوغان، فكرّر، بعد لقائه بايراموف، القول إن «فتح ممرّ زينغيزور هو شرط إلزامي من أجل عملية التطبيع في المنطقة»، فيما نُظر إلى هذه التصريحات وتلك التي أطلقها فيدان على أنها تصعيدية، وتهدف إلى الضغط على يريفان.
منذ انتهاء الحرب الآذربيجانية - الأرمينية، والضغوط على يريفان تتواصل للاعتراف بقره باغ تابعة لسيادة باكو


وكان باشينيان أعلن، بدوره، الخميس الماضي، أن توقيع اتفاق سلام مع الجارة الآذربيجانية وتطبيع العلاقات مع تركيا وتطوير العلاقات مع إيران وجورجيا، «حتميّ»، لكنه وقف على مسافة من الوضع في قره باغ بتنصّله من مسؤولية بلاده عمّا يجري فيها، عندما قال: «أرمينيا لا يمكن أن تحدّد مصير شعب قره باغ... أنا رئيس حكومة 29800 كيلومتر مربع»، مضيفاً: «يجب أن تبدأ فوراً محادثات بين مسؤولي ستيباناكرد وباكو من أجل ضمان الحقوق المدنية للشعب وأمنه»، وداعياً، في الوقت ذاته، «باكو وستيباناكرد (عاصمة قره باغ التي يطلق عليها بالأرمينية أرتساخ) إلى أن تتحمّلا مسؤوليتهما، وأن تقلّلا الارتباط بموسكو». وعن موقف أرمينيا من «ممرّ زينغيزور» الذي يمرّ تماماً في موازاة الحدود الإيرانية، ويشكّل حاجزاً بريّاً بين الجمهورية الإسلامية وسائر الأراضي الأرمينية، عارض باشينيان المطالب الآذربيجانية - التركية، بقوله إنه «لا يمكن أن يعمل أيّ ممرّ على أراضي جمهورية أرمينيا، إلّا في إطار وحدة الأراضي الأرمينية والسيادة والقانون». والممرّ الذي نصّ اتفاق وقف الحرب على إقامته، يجب أن يخضع لإشراف الشرطة العسكرية الروسية مع حرية التنقّل الكاملة للشاحنات والآليات عليه ذهاباً وإياباً، ومن دون أيّ رقابة أرمينية عليه، ما يحوّله عمليّاً إلى ممرّ دولي غير خاضع للسيادة الأرمينية، وهي النقطة الوحيدة تقريباً التي تعترض عليها يريفان.
بالنتيجة، ومنذ انتهاء الحرب الآذربيجانية - الأرمينية، تتواصل الضغوط على يريفان للاعتراف بقره باغ تابعة لسيادة باكو، كما الاعتراف بسيادة الأخيرة على كامل أراضيها وفق ما كانت محدَّدة قبل تفكُّك الاتحاد السوفياتي. وبعد إغلاق باكو «ممرّ لاتشين»، حصل تطوّر إيجابي واحد، وهو فتح «ممرّ مارغارا» عند الحدود الشمالية بين تركيا وأرمينيا لتتمكّن شاحنات مساعدة إنسانية أرمينية من العبور ونقل المساعدات إلى ضحايا زلزال السادس من شباط الماضي. لكن هذا الممرّ أعيد إغلاقه بقرار تركي، فيما يحكى اليوم عن إعادة تأهيله ليُفتح من جديد بشكل كامل. ويوم الأربعاء الماضي، في 28 تموز، أَرسلت أرمينيا قافلة من شاحنات عدّة تنقل 400 طن من المواد الغذائية إلى قره باغ، لكنها مُنعت من عبور «ممرّ لاتشين»، حيث لا تزال تنتظر. وقد وصفت آذربيجان إرسال القافلة بـ«العمل التحريضي»، وقالت وزارة خارجيتها إن يريفان لم تتواصل مسبقاً مع باكو للتنسيق في شأن هذه الخطوة التي تُعتبر «عدواناً على سيادة أذربيجان»، لتردّ وزارة الخارجية الأرمينية، بأن استمرار إغلاق الممرّ يمثّل «إبادة في حقّ شعب قره باغ». في المقابل، دعا وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في اتصال هاتفي مع الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، قبل يومين، إلى فتح «ممرّ لاتشين»، وتوقيع اتفاق سلام بين باكو ويريفان، كما دعت أمينة عام «المجلس الأوروبي»، ماريا بوريتش، أيضاً، إلى فتح الممرّ.
وتنقل صحيفة «آغوس» الأرمينية الصادرة بالتركية في إسطنبول، في عددها الصادر أول من أمس، عن الكاتبة سيرانوش سرغسيان الموجود في قره باغ، قولها إن «ستيباناكرد أشبه بزنزانة يحاصَر فيها شعب بأكمله»، لافتةً إلى أنه «قبل الحصار، كانت القوات الروسية تؤمّن المواد الغذائية للسكان، لكن اليوم نخرج من بيوتنا صباح كل يوم للبحث عن الغذاء، كما لو أنّنا ذاهبون إلى الصيد»، وأن «14 ألف شخص باتوا عاطلين من العمل بسبب الحصار»، مضيفةً: «القوات الروسية لا تستطيع حمايتنا، ولا العالم الغربي يبدي أيّ اهتمام، وأنا آسفة لهذا الغرب الذي يدّعي أنه يريد جزيرة ديموقراطية في القوقاز... حياتنا لا قيمة لها لدى الغرب الذي لا يرى سوى النفط والغاز القادمَين من آذربيجان».
من جهة أخرى، تخلّل المحادثات بين فيدان وبيراموف موقفٌ آذربيجاني مثير للانتباه، عبّر عنه وزير الخارجية، حين قال إن «منصّة عمل» ثلاثية ستتشكّل للتعاون، تضمّ كلّاً من آذربيجان وتركيا وإسرائيل، وستكون، كما أوضح بيراموف، «مفيدة» للجميع، مضيفاً أن العلاقات الثنائية بين باكو وأنقرة ستتعزّز وستتمّ زيادة كميات الغاز التي تضخّ عبر خطّ «مشروع أنابيب غاز عبر الأناضول» (tanap) لتوفير المزيد من الغاز لأوروبا.