تبدو العلاقات بين أنقرة وموسكو في مرحلة اختبار حقيقية قد تكون الأكثر حساسية منذ بدء «الشراكة» بين البلدَين
غير أن حسابات الحقل الروسية لم تطابق على ما يبدو حسابات البيدر. فالحرب الاستباقية التي بدأتها موسكو على كييف، في الـ24 من شباط من العام الماضي، مضى عليها سنة ونصف السنة، من دون أن يمضي مسارها وفق ما تطلّع إليه بوتين ابتداءً؛ ذلك أن المساعدات الغربية لأوكرانيا على مستوى التسليح والمشاركة في التوجيه والتخطيط، وضعت عقبات حقيقية أمام مسار التقدّم الروسي، من دون أن تفلح في المقابل في تيسير الحسم المرغوب أوكرانياً. ويضاف إلى ذلك، بدء كييف، منذ مدة، إرسال مسيّرات لتضرب الداخل الروسي، بما فيه العاصمة موسكو، فضلاً عن تمرُّد قوات «فاغنر»، والذي ألحق ضرراً معنوياً ومادّياً بالجبهة الروسية. ومن هنا، كان قرار إنهاء «اتفاق الحبوب»، كأحد محاولات روسيا للضغط على الغرب في هذه المرحلة من الصراع الجاري.
لكن أيضاً، فإن إنهاء الاتفاق ما كان ليتمّ بهذا الحسم، لولا المواقف التركية «المفاجئة» عشية «قمّة فيلنيوس»، والتي اعتبرها الروس «عدائية». ومن أبرزها: قرار أنقرة تسليم كييف خمسة من قادة كتيبة «آزوف» ممَّن أفرجت عنهم موسكو على أن يبقوا في تركيا إلى حين انتهاء الحرب، ومن ثمّ تأييد إردوغان انضمام أوكرانيا إلى «حلف شمال الأطلسي»، وبعدها، أثناء القمّة، رفعه «الفيتو» عن انضمام السويد إلى الحلف، وقبلها بأشهر موافقته على انضمام فنلندا إليه.
وإذ كانت روسيا تدرك، باعتراف الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن تركيا بلد أطلسي، وأن عليها التزامات خاصّة تجاه الحلف، فإن معرفتها بذلك، والتي لم تمنعها سابقاً من الرهان على بقاء «حليفتها» على مواقفها الاعتراضية على الغرب وحصاره لموسكو، ولا سيما في المجالَين العسكري والاقتصادي، ستكون الآن محلّ اختبار أكبر، بعدما أظهر إردوغان استعداداً لـ«التخلّي» في أكثر القضايا حساسيّة وخطورة بالنسبة إلى روسيا. وفي هذا الإطار، لن يقابل الروس بارتياح الخبر الذي نشرته وزارة الدفاع الأوكرانية، قبل أيام، من أنها وقّعت مع شركة ماكينات «بايكار» التركية اتفاقاً لإقامة مركز لصيانة وترميم المسيّرات على الأراضي الأوكرانية، فيما يشاع أن «توضيح» أنقرة أن «مركز الغاز» الذي وعد بوتين بإقامته في تركيا وفي منطقة تكيرداغ الأوروبية، لن يكون عبارة عن مستودع يُخزَّن فيه الغاز الروسي ليُباع في السوق العالمية، بل هو مجرّد منصة إلكترونية تبيع الغاز الروسي وربّما غيره، إنما ناجم عن ردّ فعل روسي أوّلي على مواقف تركيا السلبية في الآونة الأخرى.
بالنتيجة، تبدو العلاقات بين أنقرة وموسكو في مرحلة اختبار حقيقية قد تكون الأكثر حساسية منذ بدء «الشراكة» بين البلدَين في اجتماع بوتين وإردوغان في التاسع من آب 2016، في سانت بطرسبروغ. ومع أن الطاقم الجديد في تركيا الذي يتولّى السياسة الخارجية، وعلى رأسه حاقان فيدان، الذي كان - بصفته رئيساً للاستخبارات - جزءاً لا يتجزّأ من المفاوضات والعلاقات بين تركيا وروسيا منذ أكثر من 10 سنوات، أفضل مَن يَفهم روسيا، وبالتالي يمتلك إمكانية تجاوز القطوع الحالي، غير أن طرف الخيط يبقى في مَن يمسكه، أي إردوغان الذي أَظهر براعة في التذبذب في المواقف، والانتقال من موقع إلى نقيضه مُستغلّاً بمهارة لحظات الضعف الروسية. ومع ذلك، قد لا يجد بوتين بدّاً من أن يتحمّل «الضيم» التركي، ويُعيد صوغ «الشراكة» مع أنقرة ولو على مضض في لقائه المرتقب قريباً مع إردوغان في أنقرة.