لم يكن انتقال أفغانستان من «زمن أميركا» إلى «حُكم طالبان» سلساً، لا سياسياً ولا أمنياً. معضلة الاضطراب الأمني المتوارَثة على مدى يناهز الثلاثة قرون من التاريخ السياسي الحديث للدولة المتربعة على موقع استراتيجي بالغ الأهمية بين بلدان آسيا الوسطى، وجنوب آسيا، لا تزال إحدى أبرز العقبات الماثلة أمام فرص استتباب الحُكم الجديد، منذ وصول حركة «طالبان» إلى سدّة السلطة بعد انسحاب القوات الغربية صيف عام 2021. «عقبةٌ» باتت تَفرض واقعاً صعباً لا تقتصر حدود مفاعيله السلبية على الداخل الأفغاني، على وقع استعادة الجماعات المتطرّفة، وعلى رأسها تنظيم «داعش - خراسان»، نشاطها في الآونة الأخيرة، وصولاً إلى الهجمات الدموية الأخيرة في باكستان المجاورة.
رسائل سياسية وعسكرية إلى باكستان
قبل أيام، استهدف هجوم انتحاري، هو الأعنف منذ أشهر، مؤتمراً لأعضاء وقيادات جمعية «علماء الإسلام» في إحدى مناطق مقاطعة باجور القَبلية الباكستانية، الواقعة على مقربة من حدود أفغانستان، مخلّفاً 54 قتيلاً، من بينهم قياديان في الجمعية، إضافة إلى 200 جريح. الهجوم الذي سارع التنظيم إلى تبنّيه، بدا محمَّلاً بجملة رسائل، أوّلاها ضدّ «علماء الإسلام»، ومِن ورائها حلفاؤها في حكومة إسلام آباد، على خلفية تدشينهما حملة عسكرية أمنية هي الأقوى منذ عام 2014 ضد الجماعات «الجهادية»، والمدارس الدينية المتعاطفة معها. والظاهر أن «داعش - خراسان» يخشى استعادة مناخات ذلك العام، في حين يَطرح خبراء عسكريون تساؤلات حول مدى نجاعة الحملة في ظلّ غياب الدعم الجوي واللّوجستي الأميركي بعد الانسحاب من أفغانستان.
في هذا الإطار، تعتقد الباحثة المتخصّصة في الشأن الباكستاني، أميرة جادون، أن تفجير باجور يؤشّر إلى «تنامي قدرات التنظيم، وتصاعد موقفه القتالي العدائي شمال غرب باكستان» ضدّ السلطات. وتضيف مؤلّفة كتاب «تنظيم داعش في باكستان وأفغانستان: الصراعات والتحالفات الاستراتيجية»، أن ما جرى «يُظهر احتفاظ داعش بقدرته على الوصول باستمرار إلى جانبَي الحدود (الأفغانية - الباكستانية)، والتحرك عسكريّاً في تلك المنطقة، كما كان عليه الحال في فترات سابقة». على أنه ربّما يكون للحدث بُعدٌ سياسي، أساسه رغبة الجماعة المتطرّفة في تسليط الضوء على هشاشة الوضع الداخلي في باكستان، الغارقة في صراع محتدم بين الحكومة الحالية، ورئيس حركة «إنصاف»، عمران خان، في وقت تستعدّ فيه البلاد لإجراء الانتخابات التشريعية العامة المقبلة بعد قرابة الشهرين، مع انتهاء ولاية حكومة شهباز شريف في آب الجاري.
من جهته، يعتبر الباحث في «معهد السلام» الأميركي، مير أسفنديار، أن التطوّرات الأمنية الأخيرة إنّما هي «بمثابة تذكير إضافي بأن التطرّف في باكستان لا يزال يأخذ منحًى تصاعدياً»، مرجّحاً اشتداد حدّة التدهور الأمني خلال الأشهر المقبلة. ويلفت إلى ما يسمّيه «التناتش على النفوذ والمناطق» بين أطراف عدّة، قائلاً إن «مجموعة مختلفة من الجماعات، على غرار داعش - خراسان وطالبان الباكستانية، تحاول اقتطاع مساحة جغرافية خاصّة بها من أراضي البلاد، وهو ما من شأنه أن يَخلق حافزاً لديها لتمييز نفسها عمّن سواها، سواء لناحية اختيار المناطق والفئات الاجتماعية التي تستهدفها، أو لناحية تقدير مستوى ونطاق العنف الذي تمارسه».
يتمسّك البعض بفرضية أنّ عودة «داعش - خراسان» إلى واجهة الأحداث متّصلة بوجود «تواطؤ» مع «طالبان»


أمّا في التداعيات السياسية، فيعتقد الباحث المتخصّص في شؤون الجماعات المتطرّفة في جنوب آسيا، عبد الباسط، أن واقعة باجور «سوف تفعل فعلها في أوساط السياسيين، والرأي العام على حدّ سواء». ويحتمل الأستاذ الجامعي في كلية «إس راجاراتنام» للدراسات الدولية أن تؤدّي التطوّرات الأمنية الأخيرة «إلى حملات انتخابية تتّسم بالملل وضعف إقبال الناخبين، على نحو يقوّض مصداقية الانتخابات العامة المقبلة».
كذلك، يتوقّف مراقبون عند وقوع حوادث قتل طائفية متبادَلة في إقليم خيبر بختخوا، في أيار الماضي، وتحديداً في قرية كورام، التي تُعدّ البلدة الوحيدة التي يطغى عليها المكوّن الشيعي على مستوى الإقليم ككلّ، للدلالة على وجود خشية حقيقية من إمكانية استغلال التنظيمات المتشدّدة الواقع المأزوم داخلياً على أكثر من صعيد، لتكريس حالة من التمرّد ضد حكومة إسلام آباد، وإحداث شرخ أهلي داخل «خيبر بختخوا» حيث النسيج القبلي الطائفي المتنوّع، بصورة تعيد المنطقة إلى حقبة اقتتال مذهبي عايشته منذ عقد.

صراع على «الشرعية الجهادية»
جاءت الهجمات الدموية التي ضربت باكستان أخيراً، ضمن سلسلة تفجيرات استهدف بعضها مسجداً في بيشاور مطلع العام الجاري، ومقرّاً للشرطة في كراتشي في شباط الماضي (تبنّتهما حركة «طالبان باكستان»). كما أنها أعقبت هجمات طالت الجوار الأفغاني أيضاً منذ إحكام «طالبان» سيطرتها على السلطة في كابول، بخاصة تلك التي نُفّذت ضدّ مساجد يؤمّها أفراد من أقلية الهزارة و«الصوفيين» في بعض مناطق الشمال والجنوب. وعلى رغم أن بعضها لم يتبنّه أحد، إلّا أن خبراء رجّحوا وقوف «داعش - خراسان» خلفها، ولا سيما وأنها حملت طابع العمليات الانتحارية المألوفة لدى التنظيم.
وعن هجوم باجور تحديداً، ثمّة مَن يميل إلى تأطيره ضمن سياق العلاقات المتوتّرة مع حكم «طالبان»، بالنظر إلى العلاقات الجيّدة التي تربط قيادات في جمعية «علماء الإسلام» بالحركة، وتهديد التنظيم المتطرّف، في نيسان من عام 2022، باغتيال قيادات من الجمعية التي تُعدّ «المنبع الفكري والعقائدي» لـ«طالبان». وبناءً على وجهة النظر هذه، يودّ القادة «الداعشيون» التأكيد للحركة أن حملتها الأمنية لم تؤتِ ثمارها، وتوتير علاقتها مع بعض مكونات المجتمع الأفغاني، وإظهارها بمظهر العاجزة عن توفير الأمن لمواطنيها، خاصّة الأقليات الطائفية والعرقية، علماً أن قادة «داعش - خراسان» سبق أن وجّهوا انتقادات إلى نهج «طالبان» في إدارة المؤسّسات الحكومية والرسمية، عادّين إيّاه «متساهلاً وبعيداً من نهج الحكم الإسلامي الصارم والصحيح».
كذلك، قد يستهدف «داعش» تعكير صفو علاقات «طالبان» بدول الجوار، بخاصة باكستان وإيران والصين، وأيضاً بلدان آسيا الوسطى، وهو ما يدلّ عليه ربّما التعرّض لعدد من زوار مرقد الإمام الرضا في مشهد الإيرانية، وإعلان قصف قاعدة عسكرية أوزبكية بالصواريخ، إضافة إلى ما يمكن رصده من تبلور حالة «توأمة ميدانية» بين «الداعشيين» في معاقلهم الواقعة شرق أفغانستان، و«الانفصاليين الأويغور» المتمركزين في إقليم شينجيانغ على الحدود الغربية للصين.
ووفق محلّلين، فإن استراتيجية «داعش» في جنوب ووسط آسيا، خاصّة في أفغانستان، لم تَعُد تركّز على احتلال أراضٍ كما كان عليه الحال في سوريا والعراق، بقدْر تركيزها على إثبات قدرتها على خلْق حالة من الفوضى الأمنية ذات الطابع العنيف، وذلك بصورة قد تغري جماعات مسلّحة أخرى بفكرة التمرّد ضدّ الحكم الأفغاني. وفي هذا الإطار، يعتقد مدير قسم الأبحاث في منظّمة «Khorasan Diary» للدراسات المتخصّصة في شؤون التنظيمات المتطرّفة، ريكاردو فالي، بأن اغتيال قيادات من جمعية «علماء الإسلام»، يشكّل جزءاً من «استراتيجية أوسع لداعش - خراسان للتخلّص من علماء الدين من الطوائف والأحزاب السياسية أو المدارس الدينية (ذات التوجّه السلفي نفسه) المنافسة له».

«داعش» - «طالبان»: فرضيات التنافر والتناغم
يعود العداء بين «طالبان» و«داعش - خراسان» إلى اللحظة التي خرج الأخير فيها إلى العلن عام 2015، مستقطباً أعداداً كبيرة من المنشقّين عن التنظيم، والذين رفضوا ما اعتبروها تنازلات داخلية وخارجية من قِبَل «طالبان». ومن ثمّ توسّعت الهوّة بين الطرفَين عقب تبني التنظيم الهجوم على مطار كابول، أواخر آب 2021، بهدف إحراج «طالبان» التي كانت قد أعطت ضمانات أمنية للقوات الأميركية المنسحِبة. ويُنظَر إلى هذا الهجوم باعتباره علامة فارقة، كونه أنهى مرحلة من التوافقات الظرفية التي تمظهرت مثلاً في تسهيل النظام الأفغاني الجديد في أيامه الأولى إطلاق سجناء «داعشيين»، أو في إصرار قيادات «طالبانية» حتى الأمس القريب على التقليل من شأن التهديد الذي يمثّله «داعش – خراسان»، وصولاً حتى إلى إنكار وجود التنظيم في الأصل، وحصر الكلام عنه في إطار «التهويل الإعلامي الغربي».
بالنتيجة، أدّى تفجير المطار إلى تزايد حدّة الاحتراب، وصولاً إلى تصفية «طالبان» مسؤول الخلية «الداعشية» المسؤولة عن الهجوم. وفي حين نجحت ملاحقة القوات الأمنية الأفغانية لـ«داعش»، بدعم عسكري جوّي واستخباري أميركي، بدءاً من عام 2016، في تصفية الكثير من عناصره وقياديّيه، فقد تمكّنت «طالبان»، في وقت لاحق، من استكمال دحر التنظيم من بعض المناطق في اتّجاه معاقله في الشرق الأفغاني، وإن لفترة لم تستمر طويلاً.
مع ذلك، يتمسّك البعض بفرضية أنّ عودة «داعش - خراسان» إلى واجهة الأحداث، متّصلة بوجود «تواطؤ طالباني - داعشي» قائم حتى اللحظة ضدّ إسلام آباد، ربّما يدلّ عليه مثلاً ارتفاع عدد عناصر التنظيم بمقدار الضعف ليلامس حدود 4000 عنصر، منذ صيف 2021. لكن في المقابل، ثمّة مَن يقرأ في ما يجري صراعاً على «الشرعية الجهادية»، بالنظر إلى تشديد «طالبان» حملة الاعتقالات والاغتيالات في حقّ «داعش» في عدد من الولايات، بخاصّة في ولاية نانغارهار، في مقابل تشجيع التنظيم ظاهرة الانشقاقات داخل الحركة. كما أن ممّا قد يعزّز تلك القراءة، ارتفاع الهجمات «الداعشية» التي طاولت مقار أمنية وديبلوماسية، كان أبرزها استهداف السفير الباكستاني لدى أفغانستان، وتفجير السفارة الروسية في كابول، ومهاجمة أحد الفنادق الذي يرتاده رجال أعمال صينيون. ووفق بعض الإحصاءات الغربية، فقد بلغ عدد ذلك النوع من الهجمات حوالى 120 خلال 4 أشهر، منذ تاريخ الانسحاب الأميركي، بالمقارنة مع 39 هجوماً خلال الفترة الزمنية نفسها من عام 2020.
على أيّ حال، يشير تقرير «البعثة الأممية لدعم أفغانستان»، إلى نجاح «داعش» في استعادة نشاطه وتجنيد خلايا نائمة له في الولايات الأفغانية الـ34 كافة، فيما تتنبّأ التقديرات الاستخبارية بأنه سيواصل هجماته في الأمد القريب.