كثيرة هي «النظريات» التي ابتُدعت في مجال العلوم السياسية، لكنّ قليلاً منها ما بقي هو نفسه على أرض الواقع. ولعلّ أبرز مثال معاصر على ذلك، هو ما أتى به المفكّر والسياسي التركي، أحمد داود أوغلو، من نظرية "صفر مشكلات" بين تركيا وجيرانها الأقربين والأبعدين؛ إذ ما هي إلّا سنوات قليلة حتى تحوّلت تلك النظرية، مع ما سمّي "الربيع العربي"، إلى رميم؛ فصارت تركيا طرفاً في الصراعات الإقليمية والدولية، ليس فقط في سوريا وضدّ محورها، بل حتى ضدّ السعودية ومصر، وغيرهما. غير أن داود أوغلو ترك "بصمته" في قاموس الديبلوماسية التركية، كونه أراد لبلاده أن تكون "لاعباً مؤسِّساً" في النظام الإقليمي والدولي، وليس مجرّد بيدق يتبع سياسات يرسمها الآخرون له. وفي ظلّ غياب الظروف التي تتيح لأنقرة أن تكون ذلك اللاعب، ولا سيما بعد خلافها مع الولايات المتحدة حول الأكراد والتقارب مع روسيا، فتحت الأزمة الأوكرانية نافذة للرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ليجرّب حظّه من جديد، علّ بلاده تصبح "لاعباً مؤسِّساً" من خلال محاولة اتّباع سياسة التوازن والحياد بين كلّ من موسكو وكييف. ومن هنا، كانت تركيا الدولة الوحيدة التي احتفظت بعلاقات جيدة مع الطرفَين المتحاربَين، وحقّقت إنجازات تُسجَّل لها، من مثل "اتفاق الحبوب" وتبادل الأسرى وإبقاء العلاقات الاقتصادية مع الجانبَين، مدفوعةً خصوصاً بكون الحرب الأوكرانية تجري بين دولتَين تنتميان إلى البحر الأسود الذي تشكّل تركيا كامل ساحله الجنوبي، وكون الأخيرة تشرف بالكامل على مضيقَي البوسفور والدردنيل اللذَين تحكمهما "اتفاقية مونترو" لعام 1936، وبالتالي، من مصلحتها أن لا تتورّط طبعاً في نزاع لا ناقة لها فيه ولا جمل.تَحضر تلك الوقائع إلى الذهن، تلقائياً لدى متابعة الاجتماع السنوي الرابع عشر لسفراء تركيا في الخارج، والذي انعقد على مدى أيام في أنقرة، برعاية وزير الخارجية الجديد، حاقان فيدان، تحت عنوان "سياستنا الخارجية في القرن التركي"، وانتهى يوم أمس. وقد انعقد المؤتمر الأول للسفراء، في العاصمة التركية، في 15 تموز عام 2008، وهو من بنات أفكار وزير الخارجية في حينه، علي باباجان، الذي انفصل عن "حزب العدالة والتنمية" في صيف عام 2019، وأسّس "حزب الديموقراطية والتقدّم" الذي خاض الانتخابات الرئاسية دعماً لمرشّح المعارضة، كمال كيليتشدار أوغلو. وشارك في المؤتمر الأخير، العديد من الوزراء والسياسيين الذين قدّموا مداخلات عن الاقتصاد والطاقة والتجارة والمالية. لكنّ الكلمتَين الرئيستَين كانتا لفيدان وإردوغان، اللذَين حاولا أن يرسما للسفراء والرأي العام سياسة تركيا الخارجية في المرحلة المقبلة. فركّز وزير الخارجية، في كلمته التي ألقاها الاثنين، على سعي بلاده لأن تكون مستقلّة عن التأثيرات الخارجية، وأن تكون سياستها الخارجية "وطنية"، انطلاقاً من أنها "مركز جذب" في المنطقة والعالم، ومتّكئة على إمكانيات تقوية أمنها ووحدة أراضيها. وصنّف فيدان التنظيمات الإرهابية ووكلاءها على أنها التهديد الأكبر على الأمن والسلام والازدهار في المنطقة؛ وهي تحديداً جماعة فتح الله غولين و"حزب العمال الكردستاني" و"قوات حماية الشعب الكردية" في سوريا وتنظيم "داعش". وهي تنظيمات لن تتوانى تركيا، بحسبه، عن اتّخاذ كل الإجراءات لمواجهتها، ما يستوجب "تعزيز القدرات العسكرية والاستخبارية والتكنولوجية في الداخل، وضمان التعاون المشترك الفعّال مع أصدقائنا في الخارج".
قال إردوغان إن كلّ الخطوات التي اتّخذتها تركيا أخيراً على الساحة الدولية أظهرت أنها تحوّلت إلى «لاعب مؤسِّس»


وأكد فيدان أن بلاده "تعمل بعناد وحزم على إنهاء الحرب في أوكرانيا وإحلال السلام. وهي قلقة من تصاعد الحرب في الآونة الأخيرة"، وأنها "تعمل على إحياء اتفاق الحبوب الضروري لكل العالم"؛ ذلك أن "الطرف الوحيد القادر على إحياء هذا الاتفاق هو تركيا". وحول سوريا، قال إن تركيا "ستبقى المدافع الرئيس عن وحدة الأراضي السورية، والتوصّل إلى حلّ سياسي، وستُظهر كلّ جهد لمنع أن تكون سوريا ملجأً للتنظيمات الإرهابية أو ساحة للحروب بالوكالة"، مضيفاً إن بلاده "تعمل على تسريع عودة اللاجئين السوريّين إلى ديارهم بصورة آمنة وبكرامة. كما أن تركيا هي المدافع الرئيس عن وحدة أراضي العراق واستقراره السياسي وتدعم كلّ الجهود لتطهيره من التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني". ودعا الوزير التركي، دول "الأطلسي"، إلى إنهاء أيّ ارتباط لها بـ"الكردستاني" في العراق وفي سوريا.
وعن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، رأى فيدان أنه في وقت يتمّ فيه الحديث عن عضوية بعض الدول، بما فيها أوكرانيا، في التكتّل وفي "حلف شمال الأطلسي"، سيكون قطع الطريق أمام عضوية تركيا في الاتحاد "عمى استراتيجياً"، معتبراً أن الأخير "لا يمكن أن يكون لاعباً عالمياً بالمعنى الفعلي إن لم تكن تركيا أحد أعضائه". ودافع بأن سياسة بلاده تجاه قبرص واضحة، وهي أن يكون للقبارصة الأتراك وضع قانوني دولي ومساواة في السيادة مع القبارصة اليونانيين، عادّاً الظروف الحالية مؤاتية لتحسين العلاقات مع اليونان، ومبدياً استعداده لمواصلة دعم الجهود للتوصّل إلى اتفاقات لتطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا، وبين أرمينيا وآذربيجان. كما اعتبر أن الحلّ الوحيد الممكن في الشرق الأوسط هو سلام قائم على الشرعية الدولية وإقامة دولة فلسطين المستقلّة وذات السيادة في إطار «حلّ الدولتَين».
من جهته، قال إردوغان إن كلّ الخطوات التي اتّخذتها تركيا أخيراً على الساحة الدولية قوبلت باهتمام بالغ، وأظهرت أن بلاده تحوّلت إلى "لاعب مؤسِّس"، بعدما ضاعفت من قوّتها ووسّعت أفق سياستها الخارجية. وفي تذكير بما كان يردّده أحمد داود أوغلو، أشار إلى أن تركيا "لا يمكن أن تراقب التطوّرات من على الشرفة"، بل هي "ملزمة بالنزول إلى الميدان، والتدخّل انطلاقاً من كونها محوراً، وأن تستخدم كلّ قوتها الناعمة والخشنة". وعن سوريا، أشار فقط إلى مسألة اللاجئين وتسريع عودتهم بصورة آمنة وطوعية إلى المنازل التي تبنيها تركيا لهم. وفي سياق آخر، تحدّث عن أنه يؤمن بأنه سيتوصّل إلى قاسم مشترك مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في شأن "اتفاق الحبوب"، محذّراً من اتّساع الحرب لتشمل البحر الأسود، لأن ذلك سيكون بمثابة كارثة لكلّ المنطقة، متوقعاً أن يلتقي بوتين خلال الشهر الجاري، في ضوء الاتصالات التي يقوم بها وزير الخارجية ورئيس الاستخبارات التركيان. وأنهى إردوغان كلمته بالقول إنه "ليس هناك من مشكلة ليس لها حلّ، ولا سيما مع جيراننا... وتركيا جاهزة لذلك".