اشتدّت الأزمة الداخلية في إسرائيل، بالتوازي مع تعميق المؤسّسة العسكرية دخولها على خطّها، عبر سجالات متصاعدة مع أطرافها، تُظهر حجم الانقسام الحادّ الذي يضرب الكيان. وإذ يبدو أكيداً أن الجيش الإسرائيلي لم يتأثّر بتلك الأزمة إلى حدّ تفكّكه أو تهشّم كفاءته وجهوزيته، كما يتردّد بين الحين والآخر - في تل أبيب نفسها قبل صفوف أعدائها -، إلّا أن خشية المؤسّسة المذكورة من وقوع الأسوأ المتمثّل في فقدان «النوعية البشرية» المطلوبة للخدمة العسكرية، وتضييع المنخرطين في هذه الأخيرة حصانتهم «الدولية»، مصحوبةً بالنزعة الليبرالية لدى قادة الجيش وجنوده، تدفعها إلى التموضع ضدّ مشروع اليمينَين الفاشي والمتطرّف، وهو ما يجرّ عليها ردود فعل كبيرة جدّاً من جانب أعضاء الائتلاف، زاد من حدتّها، رمزياً، اصطفاف نجل رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إلى جانب الفاشيين في حملتهم ضدّ قائد أركان الجيش، هرتسي هليفي، وما ترتّب على ذلك من إحراج لنتنياهو، وسوْقِه إلى محاولة منع أيّ هجوم كلامي أو اتّهامات للمؤسسة العسكرية.وكان رئيس الأركان، إلى جانب قائد سلاح الجو، وعدد آخر من ضباط الأركان، تحدّثوا أو سرّبوا عبر الإعلام أن «التعديلات» القانونية التي تسعى الحكومة إلى تطبيقها، تضرّ بتماسك الجيش وكفاءته، وتضاعف التهديدات القائمة بما لا يمكن جبره لاحقاً، في مرحلة باتت مُشبَعة بالتهديدات أصلاً. وتعني هذه التصريحات، سواءً كانت مباشرة أو عبر تسريبات، رفع الراية الحمراء أمام السياسيين، بالاستناد إلى قوّة التأثير والمكانة اللذَين تتمتّع بهما المؤسسة العسكرية، لحثّهم على التراجع عن مشروع «الإصلاحات» التي من شأنها تغيير ماهية النظام في إسرائيل، عبر إضعاف مكانة القضاء ودوره. ومن هنا، يُطرح السؤال عمّا إذا كان تدخّل الجيش سيؤدّي إلى إنهاء الأزمة؟ الإجابة عن هذا السؤال تبدو غير واضحة أو محسومة تماماً، لكن ما يمكن الجزم به أن تدخّل المؤسّسة العسكرية في وقت وصلت فيه الأزمة إلى مستوى غير مسبوق، سيؤدّي إلى تعزيز اتّجاه موجود أصلاً لدى نتنياهو، لإنهاء أو تجميد الوضع على ما هو عليه، ما يعني أن سبب الأزمة المباشر، والمتمثّل في «الإصلاحات القضائية»، سيُعطَّل إلى أجل غير مسمّى، إن لم يكُن إلى غير رجعة.
فرملة التعديلات القضائية لن تنهي شروخ إسرائيل التي انكشفت على حقيقتها


وفي الأسبوعين الأخيرين، لمس أعضاء الائتلاف حقيقة دخول المؤسّستَين العسكرية والأمنية، بأذرعهما المختلفة، على خطّ الصراع القائم، من أجل إجبار نتنياهو على التراجع عن التعديلات التي يراد منها فرض إرادة أحادية على الآخر اليهودي، في شؤون الأمن والسياسة الخارجية والداخلية، بما يعني كذلك فرض الأجندة الخاصة بالمتطرّفين والفاشيّين اجتماعياً ودينياً. والخشية من سيناريو كهذا، ظهرت جليّة في هجمات هؤلاء التي طالت كبار المسؤولين في الجيش، وتحديداً رئيس الأركان، الأمر الذي دفع بدوره قادة الجيش إلى تعميق انخراطهم في السجالات. وفي المحصّلة، يؤدّي كلّ ما تقدّم إلى المزيد ممّا يشكو منه هليفي نفسه: تراجع التماسك والجهوزية لدى الجيش، وتصاعد رفض الخدمة العسكرية الاحتياطية، والذي بات يهدّد الكفاءة العمليّاتية. لكن ما يجدر التنبيه إليه هنا، أن الحاصل إلى الآن، إنّما هو تأثير نسبي على كفاءة الجيش، أكثر منه على تماسكه، وأن الأمور لم تصل، حتّى اليوم، إلى حدود الخط الأحمر الذي يجبر المؤسسة العسكرية على رفع راية حمراء أمام نظيرتها السياسية. ومع ذلك، لا يجد قادة الجيش بدّاً من فعل وقائي لمنع تطوّر الأزمة، عبر فرملة اندفاعة الفاشيين.
وكان دخول نجل نتنياهو، على خطّ مهاجمة رئيس الأركان، إلى جانب عدد من وزراء الحكومة وأعضاء «الكنيست» التابعين للائتلاف، والذي أحرج رئيس الحكومة ودفعه إلى إصدار بيانات شجب للاتهامات المُساقة ضدّ ضباط الجيش وجنوده، استدعى مزيداً من التدخّل من هؤلاء الأخيرين. على أن هكذا تطوّر قد يتيح لنتنياهو كبح جماح «الرؤوس الحامية» في ائتلافه، والذين بالغوا في مهاجمة قادة المؤسسة الأمنية، بقولهم: «عندما ينقشع الضباب، سيُذكَر السيد هليفي كرئيس الأركان الفاشل والمدمّر في تاريخ الجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل»، وهو ما ورد في المنشور الذي شاركه يائير، إلى جانب: «بقدر ما يكون هناك ضرر على كفاءة وحدات عسكرية معينة، فإن المسؤولية عن ذلك لا تقع على عاتق الحكومة، التي لا تخضع لتهديدات ومحاولة من قبل حفنة من العسكريين لإخضاع حكومة منتخبة، بل على عاتق الرافضين (للخدمة العسكرية) والتهديد والتحريض، وعلى رأسهم هليفي».
وتظهر الاتهامات غير المسبوقة الواردة في ذلك المنشور وغيره من التصريحات والبيانات التي ضجّ بها الإعلام العبري في الأسبوع الأخير، أن تقديرات الجهات اليمينية المتطرّفة والفاشية تشير إلى أن هناك جدّية فعلية وتأثيراً مرتقباً كبيراً لتدخل المؤسسة العسكرية، بما سيجبر نتنياهو على فرملة اندفاعة «الإصلاحات القضائية». لكن حتى لو تمكّن هذا التدخّل من تعطيل السبب المباشر للأزمة، فإن هذه الأخيرة نفسها لن تنتهي مع انتهاء العامل الذي كشفها ورفع من مستواها، مجلّياً حقيقة الشروخ الإسرائيلية التي بدت أقوى وأكثر ترسخاً ممّا كان يُعتقد.