«جيش الشعب يواجه خطر التفكّك»؛ هذا ما أنذر منه باحثو «معهد أبحاث الأمن القومي» التابع لـ«جامعة تل أبيب»، أخيراً، في «تحذير عاجلٍ» أطلقوه على خلفية الأزمة التي تعصف بالجيش الإسرائيلي نتيجة احتجاج احتياطه، ضباطاً وعناصر، على خطّة «الانقلاب القضائي». ونبّه هؤلاء إلى أن «إسرائيل تخطو نحو واقع يكون فيه الجيش ضعيفاً، ونحو خطر يهدّد معادلة الردع الإقليمية»، في الوقت الذي تتصاعد فيه التهديدات المحدقة بإسرائيل على جبهات مختلفة، مضيفة أنه نتيجة لتلك الخطّة، ثمّة «هزّة قوية تعيشها مؤسسة الجيش، وتُضعضع أسس ومقومات مفهوم جيش الشعب»، وهو ما يَظهر جلياً في «تآكل الردع في مقابل أعدائنا»، فيما الحكومة مشغولة بإخفاء الأرقام الرسمية لأعداد الرافضين للخدمة العسكرية «كي لا تكشف عن الواقع الحقيقي للأزمة التي تعصف بالجيش ولا تزيد من الأزمة داخله، وثانياً كي لا تقدّم معلومات مجانية للعدو»، طبقاً لما ذكرته صحيفة «هآرتس» في وقتٍ سابق. وقدّر الباحثون، في تقريرهم، أنه على المدى الفوري «يُتوقّع حصول تراجع واضح في جهوزية منظومات حيوية مختلفة، وفي مقدّمتها سلاح الجو، والاستخبارات العسكرية، والعمليات الخاصة ووحدات النخبة». مع ذلك، وبالرغم أيضاً من التحذيرات التي صدرت عن رئيس هيئة أركان الجيش، هرتسي هليفي، وعدد من جنرالات الجيش وقادته، وآخرها الأسبوع الحالي، لم يبدِ المستوى السياسي دعماً وإصغاءً كافيَين ولائقَين، لا بل بدأ بعضهم هجوماً مضادّاً عنيفاً، تضمّن اتهام هليفي بقيادة «تمرّد»، وتحميله مسؤولية تضعضع جيشه، فيما انضمّ إلى تلك «الزفة»، نجل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، يائير، الذي شارك منشوراً لأحد ناشطي اليمين، يَعتبر هليفي «رئيس الأركان الأكثر فشلاً في تاريخ الجيش الإسرائيلي»، على اعتبار أن الأخير تساهل مع رافضي الخدمة والمتمرّدين، وبات «سفيرهم أمام الحكومة». وبعد مضي 24 ساعة على المنشور الذي جرى حذفه، كلّف نتنياهو نفسه أخيراً عناء إصدار بيان مشترك مع وزير الأمن، يوآف غالانت، عبّرا فيه عن «دعمهما الكامل لرئيس الأركان»، بعدما انهالت التقارير العبرية قبل صدور البيان، لتشير إلى احتمال التصادم بين نتنياهو وغالانت من جهة، وبين نتنياهو وهليفي من جهة أخرى.
وبالعودة إلى تقرير باحثي «الأمن القومي»، فإنه حتى لو عاد جنود وضباط الاحتياط إلى تأدية الخدمة المنتظمة، «فليس بالإمكان إصلاح الضرر الذي لحق بالجهوزيّة، وكذلك بالوحدة والشرعية الضرورية». ذلك أن منظومة الاحتياط تُعدّ «الحلقة الأضعف في الجيش وخاصرته الرخوة» كونها مبنيّة على التطوع أساساً، الأمر الذي يعني أن «الضرر الذي لحق وسيلحق بها، سواءً بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يلقي بتداعياته ليس على مستقبلها وقدراتها فحسب، وإنما على الجيش برمّته أيضاً، وخصوصاً أنه يزعزع شرعية الجيش في تجنيد الجنود والضباط للخدمة في الاحتياط، وهو ما يشكّل بوّابة واسعة لتفكّك جيش الشعب». وفي السياق نفسه، اعترف قائد سلاح الجو، تومر بار، قبل أيام، بأن «ثمّة ضرراً في كفاءة الجيش وبالأساس سلاح الجو، إضافة إلى الضرر الذي طاول تشكيلات أخرى»، مضيفاً، في إفادة صحافية شارك فيها 60 ضابطاً عسكرياً من سلاح الجو، أنه «لا يمكن معرفة ما إذا كان الضرر سيكون أكبر بكثير بعد شهر»، مستدركاً بأن «الجيش الإسرائيلي حالياً يتمتع بالجهوزية لخوض الحرب، بالرغم من التضرّر التدريجي في كفاءته»، علماً أن حروب العدو منذ تموز 2006 تعتمد بشكل أساسي على سلاح الجو.
الفوضى التي تقف على عتبتها مؤسسة الجيش الإسرائيلي، ستكون لها تداعيات عميقة على المديين القريب والبعيد


أمّا على مستوى رئاسة الأركان، فيُعدّ هليفي، من بين أسلافه، أوّل مَن أَولى درجة قصوى من الأهمية لمسألة القوى البشرية في صفوف الجيش؛ إذ استعرض أخيراً خطّة «معالوت» العسكرية متعدّدة السنوات، والتي وضع فيها «الأفراد والجيش والمجتمع» في رأس التهديدات، تليهم إيران والجبهات المتعددة، وذلك على اعتبار أن «إسرائيل ستتمكّن من مواجهة تحدّياتها، فقط إذا استمرّ أفضل الأشخاص وأكثرهم ملاءمة في تأدية خدمة عسكرية هامّة»، وأن «نموذج جيش الشعب هو الذي يسمح ببقاء تلك النوعية في الجيش الإسرائيلي، ويشكّل جزءاً لا يتجزأ من هوية» هذا الأخير. وانطلاقاً مما تَقدّم، رأت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن التهديد الذي تحدّث عنه هليفي «آخذ في التطوّر»، «وتفتيت الجيش من الداخل»، و«إضعافه وفقدان الثقة التي يستند إليها كجيش الشعب». وطبقاً للصحيفة، فإن «القيادة العسكرية تستصعب ترجمة (الخطر المحدق) للجمهور، وتبيان الأثمان التي ستدفعها إسرائيل في الحرب القريبة في الشمال وغزة إذا ما بقيت تقود جيشاً بمستوى متدنٍ»؛ إذ «سيقتل آلاف المواطنين والجنود وليس مئات فقط، فيما ستُدمر آلاف المواقع في مراكز المدن إلى حدٍّ لا يمكن احتواؤه».
في ظلّ هذه الوقائع، قدّم نتنياهو، مطلع الأسبوع، موعد اجتماع طارئ كان يُفترض أن يُعقد اليوم، للتداول في كفاءة الجيش وتماسكه، بمشاركة هليفي، وبار، وغالانت، ورئيس «مجلس الأمن القومي»، تساحي هنغبي. وفي خلال الاجتماع، اضطرّ رئيس الأركان للخروج إثر صراخ نتنياهو عليه، وسط «أجواء متوترة» بحسب ما أفادت به «القناة 13»، مشيرةً إلى أن «نتنياهو صرخ على هليفي، وطالبه هو وبار بنفي التقارير حول تراجع كفاءات الجيش، متّهماً إياهما بـ"المسّ بالردع"»، وهو ما دفع هليفي إلى الردّ قائلاً: «لا يمكنني الوقوف على الحياد عندما تتضرّر الكفاءات». وفي أعقاب انتهاء الاجتماع، حاول نتنياهو التقليل من حجم الكارثة المحدقة بجيشه؛ إذ قال للمقرّبين منه إنه «ليس متوجّساً من تراجع مستوى كفاءات الجيش، وأوعز كذلك إلى غالانت بالحفاظ على الكفاءات»، في إشارة إلى أن هذه الأخيرة لا تزال موجودة في نظره، وفق ما ذكرته صحيفة «إسرائيل اليوم».
ويأتي هذا وسط تزايد المخاوف من «لعنة فينوغراد» (اللجنة التي شُكّلت بعد حرب تموز)؛ إذ كشف أعضاء من «المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر للشؤون السياسية والأمنية» (الكابينيت)، لصحيفة «هآرتس»، أمس، أنهم «لا يستبعدون تشكيل لجنة تحقيق لتقصّي الأسباب التي قادت إلى تراجع كفاءات الجيش الإسرائيلي». ونقلت الصحيفة عن أحد الأعضاء قوله «(إنّنا) نعمل على أساس أنه قد تتشكّل لجنة تحقيق في حال نشوب حرب أو في حال تغيير الحكومة»، فيما أشار آخر إلى أن «أعضاء الكابينيت لا ينامون الليل. فعندما يُحذّر الجيش مراراً وتكراراً من عدم جهوزيّته، يسجَّل كلّ شيء في البروتوكول. وهذا الوضع سيُكلّف الوزراء مستقبلهم السياسي. وستكون هناك نقطة، سيقول وزراء فيها إنه لا يمكنهم الاستمرار بهذا الوضع»، في إشارة إلى التعتيم الذي يمارسه نتنياهو، ويمنع بموجبه أعضاء «الكابينيت» من الاطّلاع على المداولات بشأن تراجع الجهوزية. وفي هذا الإطار، كشفت «القناة الـ12» أن مقرّباً من هليفي «نصحه بتوثيق كل محادثاته مع نتنياهو والوزراء، استعداداً للجنة تحقيق محتملة»، وهو ما تقاطع مع ما أفادت به «كان 11» من أن قادة الجيش والأجهزة الأمنية «يوثّقون تحذيراتهم بشأن جهوزيّة الجيش خطيّاً، ويَظهرون علناً بتصريحات حول الموضوع، بهدف الاستعداد لوضع قد يضطرّهم للمثول أمام لجنة تحقيق».
في المحصّلة، الفوضى التي تقف على عتبتها مؤسسة الجيش الإسرائيلي، ستكون لها تداعيات عميقة على المديين القريب والبعيد، فيما قد تصبح معالمها أكثر وضوحاً بعد انتهاء عطلة «الكنيست» الصيفيّة، حين يعود عناصر «معسكر المؤمنين» من منتجعاتهم حيث يستجمون مع عائلاتهم هذه الأيام، ليسرّعوا من مخطّط «الانقلاب القضائي»، الذي سيصبح معه الجيش، جنوداً وضباطاً، عرضةً للمساءلة والملاحقة القانونية الدولية لفقدان القضاء الإسرائيلي «استقلاليته» التي يتمتّع بها حالياً. وفي انتظار ذلك، وفيما قد تتّسع رقعة الرفض في صفوف الاحتياط وحتى العناصر النظامية، من المشكوك فيه أن يدرك متطرّفون مثل وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، ووزير الماليّة، بتسلئيل سموترتش، ومعهم قادة الأحزاب «الحريدية» ما الذي يعنيه تقهقر «جيش الشعب» الذي لم يخدموا في صفوفه يوماً.