خطوةً بعد أخرى، يواصل الائتلاف الحاكم في باكستان، ومن خلفه المؤسّسة العسكرية، سَيْرهما لإنجاح مساعيهما الرامية إلى الإطباق على الواقعَين السياسي والدستوري في البلاد، سواءً عبر «الاقتصاص» السياسي من زعيم حركة «إنصاف»، عمران خان، وكوادر حزبه ومناصريه، أو عبر الالتفاف على موعد إجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة، والمقرَّر عقْدها بحلول الخريف المقبل. وبعد أشهر من «صدام سياسي» شامل بين الحكومة المنتهية ولايتها برئاسة شهباز شريف، وخان، الذي انتهى به المطاف إلى السجن بتهم ظاهرها جنائي وباطنها سياسي، جاء تكليف حكومة انتقالية جديدة برئاسة أنوار الحق كاكر، وهو عضو مجلس الشيوخ عن إقليم بلوشستان، علماً أنه شخصية سياسية مثيرة للجدل تتفاوت النظرة حول مدى قربها من قادة الجيش والنخبة السياسية التقليدية. وانطلاقاً من ذلك المُعطى بالتحديد، فإن هذا التكليف، وبقدْر ما يعنيه من دلالات في شأن حرص حكومة شريف، و«حزب الرابطة الإسلامية» الذي يتزعّمه الأخير، على احترام الاستحقاقات الدستورية، فإنه قد يحمل مؤشرات، وبالقدْر نفسه، في الاتجاه المعاكس.
العلاقات الوثيقة التي تربط كاكر بالمؤسّسة العسكرية، من شأنها تعزيز هيمنتها على السياسة الباكستانية (أ ف ب)

لا «تشريعيات» إلى أجل غير مسمّى
إزاء ذلك، يعود الكلام عن مصير الانتخابات التشريعية العامة إلى مربع التكهّنات؛ فتكليف حكومة كاكر الموكل إليها، وفقاً للدستور الباكستاني، تصريف الأعمال والإشراف على تنظيم انتخابات، جاء بعد إقرار رئيس الجمهورية توصية من الحكومة السابقة بحلّ مجلس النواب قبل ثلاثة أيام فقط من انتهاء ولاية المجلس، ما أوحى بأن الدافع وراء الخطوة سياسي أكثر منه دستوري. وعلى الرغم من أن الدستور الباكستاني ينصّ صراحة على إجراء انتخابات تشريعية عامة خلال مهلة تتراوح بين 60 و90 يوماً من تاريخ حلّ البرلمان، فإن نوايا الائتلاف الحاكم، وبدعمٍ من الجيش، لا تزال ضبابية وسط أزمات أمنية متلاحقة، فاقمتها عودة «طالبان» إلى الحكم في أفغانستان، منذ صيف عام 2021، وأخرى سياسية ظلّلها التوتّر الذي طبع علاقة الحُكم بخان على مدى عام.
الثابت أن فرضية استمرار الائتلاف الحاكم ضمناً في نهج المماطلة والتسويف حيال إجراء الاستحقاق الانتخابي، باتت تجد ما يؤيّدها في بعض المواقف العلنية لوجوه سياسية بارزة في هذا الائتلاف، على غرار وزير الداخلية في حكومة شريف، حين نفى بكلّ صراحة، في خلال مقابلة تلفزيونية، إمكانية إجراء الانتخابات بحلول نهاية العام الجاري. وفي الاتّجاه نفسه، لم يَسلم هذا الاستحقاق من المفاعيل السلبية للسجال المستجدّ بين القوى السياسية حول التعداد السكاني الأخير الذي أجرته السلطات الباكستانية في أيار الفائت، وما قد يترتّب عليه لناحية تعذّر تعديل الدوائر الانتخابية بما يتوافق مع نتائجه، قبل موعد الانتخابات المرتقبة، وخصوصاً أن وزير العدل الباكستاني، أعظم نظير، رجّح، في وقت سابق من الشهر الجاري، تأجيل ذلك الموعد إلى مهلة قد تتجاوز الشهرين للسبب عينه. ويرجّح مراقبون للشأن الباكستاني أن يتمّ تأجيل الانتخابات إلى مدّة أبعد ممّا رمى إليه الوزير، وربّما ليس قبل حلول الربيع المقبل على أقلّ تقدير، على اعتبار أن عملية إعادة رسم الدوائر الانتخابية سوف تستغرق مدّة تتخطّى الستة أشهر.

إرث شريف: استعادة لدور الجيش
وفي انتظار مباشرة كاكر مهامّه الدستورية رسمياً كرئيس للحكومة الباكستانية الجديدة، تتفاوت النظرة إلى الحدث بين مَن يعتبره انتصاراً لـ«الفريق الحكومي»، بدعم من قادة الجيش، في «معركة صفرية» ضدّ المعارضة، وأبرز وجوهها المتمثّلة بعمران خان، وبين مَن يراه عودة إلى نهج التسوية مع الأخيرة، على خلفية حدوث انقسامات في الآراء داخل ذلك الفريق، بالنظر إلى أن تسمية كاكر، الذي تعود جذوره إلى إقليم بلوشستان، المصنّف كأحد أقلّ الأقاليم من حيث الكثافة السكانية، أعقب مفاوضات بين شريف وزعيم المعارضة الباكستانية، رجا إبراهيم، الذي تمسّك بمطالبه بتمثيل الولايات الأصغر حجماً في الحكم. وبحسب محلّلين، فإن وجهات النظر السياسية والدينية التي يتبنّاها كاكر هي أقرب إلى تلك التي تتبنّاها قوى يمين الوسط في باكستان، ممّا يساهم في تعزيز مصداقيته داخل الأوساط السياسية والدينية الباكستانية، ويجعله نقطة تقاطع بينها.
ثمّة مَن يتساءل عن الموقف الأميركي ممّا يجري على ساحة أحد أهمّ حلفاء واشنطن في جنوب آسيا


وعلى الرغم من كثرة العثرات التي اعترضت طريقها، لم تخلُ العهدة الحكومية لشريف من محطّات «نجاح»، أبرزها، بحسب ما يروّج له، الاتفاق المبدئي الذي توصّلت إليه حكومته مع «صندوق النقد الدولي»، أواخر حزيران الماضي، في شأن قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار. ويُحسب للرجل الذي كان يتحضّر، في خلال الأيام القليلة الماضية، لمغادرة مقعده على رأس السلطة التنفيذية، قدرته على إدارة التباينات داخل الائتلاف السياسي الداعم له إبّان توليه الحُكم، فيما يُؤخَذ عليه ما يُشاع عن تورّطه في تجاوزات قانونية وإدارية لحلّ بعض إشكالات قضائية متعلّقة بأفراد من عائلته وعدد من حلفائه السياسيين، إضافة إلى إخفاقه في حماية الحريات المدنية. في المقابل، يَنظر معارضو شريف إلى عهده بوصفه «عهد عودة الجيش إلى السياسة» من أوسع أبوابها، فيما يُعتقد أن العلاقات الوثيقة التي تربط كاكر بالمؤسّسة العسكرية، من شأنها تعزيز هيمنتها على السياسة الباكستانية. وتلفت صحيفة «نيويورك تايمز»، في هذا الإطار، إلى أن تكليف كاكر ينطوي على رسالة واضحة مفادها بأنه «بعد عام من الاضطرابات السياسية التي تحدّت سلطته قادة الجيش، ها هم يحكمون قبضتهم على دفّة القيادة مرّة أخرى». وفي المحصّلة، يمكن القول إنّ حسم مسألة تأجيل ذهاب توجّه المواطنين الباكستانيين إلى صناديق الاقتراع سيُفيد المؤسّسة العسكرية كونه سيتيح لها المزيد من الوقت لتهدئة الوضع السياسي المتشنّج في البلاد.

ما دور كاكر في «لعبة واشنطن» الباكستانية؟
في محاولة لتقييم مشهد ما بعد تكليف كاكر، يحذّر المحلل السياسي الباكستاني، خالد رسول، من أنّه «في حال تمّ تأجيل الانتخابات لفترة طويلة، فإن الأمر سيفضي إلى انتكاسة سياسية وتفاقم المشهدَين السياسي والاقتصادي» في البلاد، مضيفاً أن «مصير عمران خان سيؤثّر بشكل كبير على تبلور المناخ السياسي العام، ووجهة التأييد الشعبي» في السباق الانتخابي المقبل. كما يشير رسول إلى أنّ كاكر هو «مرشّح الدولة العميقة من دون أدنى شكّ»، في إشارة إلى الجيش. على المقلب الآخر، يعتقد الناشط السياسي والحقوقي، مدير «منتدى الشباب الأفغاني» (مقرّه إسلام آباد)، سلمان جاويد، أن كاكر «شخصية على درجة عالية من الحنكة السياسية، والدهاء الإعلامي، إلى جانب ما يملكه من مهارات ممتازة في مجال العلاقات العامة»، متابعاً أن «كاكر عمل مع كل الأحزاب (الباكستانية) تقريباً بشكل أو بآخر».
وفي خضمّ ذلك، ثمّة مَن يتساءل عن الموقف الأميركي ممّا يجري على ساحة أحد أهمّ حلفاء واشنطن في جنوب آسيا، منذ إطاحة حكومة عمران خان، وصولاً إلى قرار تكليف كاكر رئيساً لحكومة انتقالية. وفي هذا الإطار، تكشّفت، الأسبوع الجاري، بعض ملامح الموقف المذكور الذي غالباً ما اتّخذ طابعاً «تدخّلياً»، عبر خلاصة وثيقة ديبلوماسية سريّة، سرّبها موقع «ذي إنترسبت»، وهي كناية عن محضر جلسة محادثات جمعت بين السفير الباكستاني لدى الولايات المتحدة، أسد مجيد خان، ووفد أميركي ضمّ مساعد وزير الخارجية لمكتب شؤون جنوب آسيا ووسطها، دونالد لو، تعود إلى آذار من عام 2022، أي قبل أسابيع قليلة من تنحية خان، تطرّقت إلى ضغوط واضحة مارسها الجانب الأميركي على المسؤولين الباكستانيين في الاتّجاه المشار إليه، وهو ما أكد وجود دور وازن لواشنطن في قرارات النخبتَين السياسية والعسكرية في باكستان منذ إطاحة حكومة خان في خلال العام الماضي.