منذ تسلّم حركة «طالبان» الأفغانية مقاليد الحُكم في كابول، خلال فترة وجيزة من بدء انسحاب القوات الأميركية وفرار الرئيس أشرف غني، صيف عام 2021، بقي السؤال الرئيسيّ المطروح حول مصير هذا الحُكم وفرصه في الحصول على اعتراف دولي، من دون إجابة، في انتظار حسم عاملَين رئيسَين، أولهما، مطالب «المجتمع الدولي» من الحركة، من جهة؛ وثانيهما، مدى رغبة أو قدرة «طالبان» على الاستجابة لتلك المطالب، من جهة ثانية، في ضوء تعهّداتها وفق «اتفاق الدوحة» الموقّع عام 2020، بعدم السماح بمهاجمة الدول الأخرى، وبخاصّة الولايات المتحدة وحلفائها، انطلاقاً من أفغانستان. هنا، يَحضر السجال حول مَن يقع على عاتقه أن يبادر إلى اتّخاذ الخطوة الأولى؛ إذ تطالب «طالبان»، على لسان زعيمها هيبة الله آخوند زاده، «المجتمع الدولي»، بالاعتراف بها من دون شروط مسبقة على قاعدة الاحترام المتبادل، وتتمسّك بالتعامل معه وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، وهو ما أكده الرجل في خطابَين منفصلَين، في تموز عام 2022، ونيسان من عام 2023، في حين تتوالى المناشدات الدولية للحركة، من جهات حكومية وغير حكومية على حدّ سواء، بضرورة تشكيل حكومة أفغانية جامعة، وإقرار دستور على نحو يراعي بصورة خاصّة حقوق المرأة والأقليات.
موقف واشنطن: بوصلة الحلفاء
فور اكتمال انسحاب القوات الأميركية وحلفائها، انشغلت الدوائر الأكاديمية داخل الولايات المتحدة بوضع تصوّراتها حول الشكل الأمثل للتعاطي مع النسخة الثانية من «طالبان»، لتشجيعها أو إجبارها على تغيير سلوكها. وانحصرت الطروحات في هذا الإطار بخيارات ثلاثة: أوّلها، السماح بتدشين قنوات ديبلوماسية مباشرة شبه رسمية ومحدودة مع الحركة، على غرار افتتاح مكتب مصالح لها في كابول، أو الإبقاء على صيغة اللقاءات الأميركية - الطالبانية التي اعتُمدت بوساطة الدوحة، وصولاً في مراحل متقدّمة إلى الاعتراف رسمياً بنظامها، وتبادل فتح السفارات؛ وثانيها، تعميق العزلة الاقتصادية للحكومة المؤقّتة في كابول، وحجْب الاعتراف السياسي عنها، توازياً مع تقليص التعامل الديبلوماسي الأميركي مع أفغانستان إلى الحدود الدنيا، تماماً كما كانت الحال إبّان حقبة التسعينيات؛ فيما ثالثها السعي إلى إطاحة الحكم الجديد. مع مرور الوقت، مالت واشنطن إلى انتهاج سياسات تدمج ما بين الخيارَين الأول والثاني، وسط استبعاد تامّ للخيار الثالث الذي من شأنه أن يعيد الولايات المتحدة مجدّداً إلى قلب الصراع الأفغاني.
أمّا بقية الدول، وعلى رأسها تلك الأوروبية، وكما كانت الحال في تقرير موعد الغزو لأفغانستان، ومن ثمّ الانسحاب منها، فـ«تكيل» مواقفها في شأن الاعتراف بحكومة «طالبان»، بمكيال الشروط الأميركية، والتي تتركّز على «تحسين» سجلّ الحركة في مجال حقوق الإنسان، وبخاصّة ما يتعلّق بحقوق المرأة. ولعلّ ممّا يسهم أيضاً في تعقيد «المسار التطبيعي»، تمسُّك واشنطن بسريان حظر السفر على عدد من القيادات الطالبانية، إضافة الى استمرار تجميد أصول البنك المركزي الأفغاني على أراضيها، المقدّرة بنحو 7 مليارات دولار، ردّاً على عدم التزام «طالبان» بتعهّداتها في «مكافحة الإرهاب»، على خلفية ثبوت استضافتها لقائد تنظيم «القاعدة» السابق، أيمن الظواهري، قبل اغتياله بطائرة مسيّرة أميركية، وأيضاً على قرارها أخيراً منْع تعليم الفتيات أبعد من المرحلة الابتدائية، وحظر عمل النساء، والذي أدّى إلى تجميد العديد من المنظّمات الدولية العاملة داخل أفغانستان برامجها الإغاثية، وعلى رأسها «البنك الدولي»، الذي جمّد بصورة مؤقتة برنامج مساعدات بقيمة 600 مليون دولار.
وحتى بعض دول الخليج، كقطر التي استضافت المكتب السياسي لـ«طالبان» بدءاً من عام 2013، وكان لها الدور الأبرز كقناة تفاوضية بين الأميركيين والحركة للتوصّل إلى «اتفاق الدوحة»، لا تجد بدّاً من الوقوف عند خاطر واشنطن، حيث بقي تقاربها المتنامي مع «طالبان» دون مستوى الاعتراف الرسمي بحكومتها بدعوى «الحيادية». إلّا أنه بالمقارنة مع التوتّر الذي بات يطبع علاقات الحركة مع حلفائها القدامى، كالسعودية وباكستان، تبدو قطر مؤهّلة للاستفادة من تأثير الجناح الذي تدعمه داخل «طالبان»، وتحديداً الجناح «البراغماتي» الذي يتزعّمه الملا عبد الغني برادر، الذي سبق أن ترأّس مكتب الدوحة، ويشغل حالياً منصب نائب رئيس حكومة «طالبان»، في مقابل جناح يتزعّمه آخوند زاده، ووزيرا الدفاع محمد يعقوب (نجل الملا محمد عمر)، والداخلية سراج الدين حقاني (قائد شبكة حقاني)، وهو جناح كثيراً ما كان يُحكى أنّه يحظى بدعم استخباري باكستاني، ومالي سعودي. وجاء اجتماع رئيس الوزراء القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، مطلع أيار الفائت، مع الملا آخوند زاده، بعيداً من الإعلام، في إطار تأكيد دور الدوحة، المؤيَّد أميركيّاً، في محاولة» ترويض التيار المتشدّد داخل «طالبان»، وإقناعه بالعدول عن سلوكياته، نظير «مغريات» من مثل «تزخيم» خطوات الاعتراف السياسي بالحركة، واضطلاع قطر بـ«دور إغاثي» لكابول شبيه بذاك الذي تؤدّيه تجاه قطاع غزة.
لا تجد بعض دول الخليج بدّاً من الوقوف عند خاطر واشنطن، حيث بقي سقف تقاربها المتنامي مع الحركة دون مستوى الاعتراف الرسمي


وكمؤشر إلى وجود انفتاح «طالباني» حيال بعض تلك المطالب، لم تتشدّد الحركة، خلال الأسابيع الأخيرة، في إلزام الفتيات بقرار منْع العمل مع جهات إغاثية، كـ«المجلس النرويجي للاجئين»، ولا سيما في مدينة قندهار، معقلها التاريخي. كما بادرت قيادتها، بعد نحو أسبوع من اجتماع آخوند زاده - آل ثاني، إلى تسمية رئيس جديد لحكومتها، هو مولوي عبد الكبير، الذي كان في عداد الفريق «الطالباني» المفاوض في محادثات الدوحة، والمحسوب على الجناح البراغماتي المقرّب من المكتب السياسي، بدلاً من الملا محمد حسن آخوند (78 عاماً)، المحسوب على التيار المتشدّد المقرّب من مجلس شورى الحركة. كذلك، تبعت لقاء آخوند زاده - آل ثاني، جولة محادثات امتدّت ليومَين في العاصمة القطرية، أواخر شهر تموز الماضي، بين وفد أميركي وآخر من «طالبان»، تناولت مصير الأموال الأفغانية المحتجزة، والإفراج عن أميركيين محتجزين في السجون الأفغانية، إلى جانب رفع حظر السفر عن عدد من قيادات «طالبان»، وتخفيف القيود على التعاملات المصرفية الدولية لأفغانستان.
أمّا السعودية فانكفأت إلى حدّ كبير عن الساحة الأفغانية لدى عودة «طالبان» إلى السلطة، مع شيوع أنباء عن إغلاق سفارتها هناك لأسباب أرجعها محلّلون غربيون إلى تعزيز طهران نفوذها داخل الجناح المدعوم من آخوند زاده، فيما بات الصدام السياسي والعسكري سمة أساسية في علاقات باكستان مع الحركة، على رغم محاولة إسلام آباد، في مرحلة سابقة، الاستفادة من رصيد «طالبان» الأفغانية في كبح جماح نظيرتها الباكستانية.

كابول ودول الجوار: تفاعلات جيوسياسية تعوّض غياب الاعتراف السياسي
من وجهة نظر مراقبين للشأن الأفغاني، تُحسب لحركة «طالبان» حيويّتها الديبلوماسية في خضمّ سعيها إلى الحصول على الشرعية، بما في ذلك من دول الجوار كالصين، والهند وروسيا، فضلاً عن اتباعها وسائل أكثر تطوّراً في صياغة الرسائل السياسية الموجّهة إلى الخارج، وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي، كمنصة «إكس» لهذا الغرض، والاستعانة بكوادر تتمتّع بالكفاءة السياسية والمهارات الإعلامية اللازمة، من مثل محمد سهيل شاهين، أحد الناطقين باسمها، وعضو اللجنة الإعلامية والثقافية فيها، محمد جلال. وعلى جانب من هذه الإنجازات الديبلوماسية والإعلامية، سلّط الضوء على تقرير لـ«معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، صدر في آب من العام الماضي، أَظهر أن قيادات «طالبان» شاركت في حوالي 400 اجتماع مع ممثّلين عن 35 دولة مختلفة (معظمهم صينيون وقطريون وإيرانيون) خلال عام واحد فقط من الحكم، للتباحث في قضايا شتى كالمساعدات الإنسانية، والحوكمة الرشيدة.
وخلال الفترة المشار إليها، أعادت 16 دولة فتح سفاراتها في أفغانستان، كالإمارات التي فازت بعقد لإدارة مطارات البلاد، في حين تسلّمت «طالبان» السفارات الأفغانية في عدد من البلدان كقطر وأوزبكستان إلى جانب روسيا، والصين، وإيران. ومن أبرز الفعاليات الدولية التي شارك فيها ديبلوماسيون طالبانيون، ما يعرف بـ«اجتماعات تنسيق موسكو» المخصّصة للبحث في سبل حلّ المشكلة الأفغانية، بحضور وفود من الصين وباكستان وإيران والهند وبلدان آسيا الوسطى الخمسة. وبدا لافتاً، خلال الاجتماعات المذكورة بدورتها الرابعة في تشرين الثاني من العام الماضي، استبعاد مشاركة وفود من «طالبان»، ما فسّره مراقبون على أنه تحوّل في السياسة الروسية تجاه الحركة، بعدما كانت قد لمّحت على لسان رئيسها، فلاديمير بوتين، إلى أنها تدرس بجدية رفْع اسمها من قائمة المنظمات الإرهابية، والتوافق مع وفود البلدان المشاركة على خيار الاعتراف بالحكم الجديد في كابول، وذلك على خلفية جملة معطيات، أبرزها: تفجير السفارة الروسية في كابول، شيوع أنباء عن انتقال مقاتلين من الداخل الأفغاني إلى مسرح الحرب في أوكرانيا، إضافة إلى تسويف «طالبان» في تشكيل حكومة أفغانية جامعة، فضلاً عن انسياق موسكو خلف حلفائها في آسيا الوسطى في شأن استشعار خطورة التهديد المتنامي للتنظيمات «الجهادية» كـ«داعش - خراسان»، و«طالبان باكستان»، عبر ممر «واخان» الواصل بين أفغانستان والصين، وطاجيكستان، علماً أن الأخيرة باتت تشكّل حالة نموذجية للبيئة المتوجّسة من سياسات «طالبان» في منطقة آسيا الوسطى، حيث بلغ التوتّر أوجه بين الأفغان والطاجيك في الأسابيع الأولى من الحكم الطالباني، حين حشدت كل من الأخيرة وحكومة دوشنبه عشرات آلاف الجنود على الحدود المشتركة.
بدورها، تتبنّى الصين الهواجس الأمنية نفسها لروسيا. ومع هذا، لا تمانع الدولتان الانخراط ديبلوماسياً بصورة أعمق مع «طالبان»، وحتى الاعتراف الرسمي بحكومتها، مقابل أن تُظهر استعدادها لتقييد نشاط التنظيمات الإرهابية كـ«القاعدة»، و«حركة تركستان الشرقية» (الإيغور)، وتنظيم «أنصار الله» الطاجيكي. في المقابل، تنطلق قيادة الجماعة في حساب الأرباح والخسائر المترتّبة على تعزيز الروابط مع كلّ من روسيا والصين، من أن ذلك يساعدها في توفير الموارد المالية اللازمة لاستئناف مشروعات التنمية الاقتصادية، والنهوض بالبنية التحتية، وأيضاً في تأمين غطاء سياسي وديبلوماسي تحتاج إليه الجماعة داخل أروقة مجلس الأمن الدولي ضدّ أي توجه غربي مستقبلي محتمل لتشديد العقوبات ضدّها، وإنْ كان الأمر سيضعها في خانة «العدو» لأصدقاء الأمس من «أخوة الجهاد»، و«الصديق» لأعداء الأمس من «المحتلّين». ويرى خبراء متخصصون في شؤون الجماعات «الجهادية» أن «طالبان» ربّما تكون قادرة أو مستعدة لتقييد نشاط عدد من التنظيمات بشكل انتقائي، كـ«حركة تركستان الشرقية»، أقلّه على مدى العام أو العامَين المقبلَين، في حين قد لا تكون في وارد القيام بأمر مماثل حين يتعلّق الأمر بتنظيمات أخرى كـ«القاعدة»، كون الأمر يتطلّب إرادة سياسية أقوى وإجماعاً غير متاحَين في أوساط قيادة الحركة، بالنظر إلى عمق الصلات التاريخية بين التنظيمَين «الجهاديين» .
في خضمّ ذلك، وفي ظلّ استمرار غياب الاعتراف الرسمي بنظام «طالبان»، يستشفّ البعض من التفاعلات الجارية مدلولات جيوسياسية بأبعاد أمنية واقتصادية. وفي حين تطغى الهموم الأمنية لطهران وموسكو على تلك التفاعلات، تتنوّع خلفية الاهتمامات الصينية بأفغانستان، ذات الأهمية المحورية في مشروع «الحزام والطريق» على مختلف الصعد. ففي مطلع العام الجاري، أَبرمت حكومة «طالبان» صفقة مع شركة صينية لاستخراج النفط من حوض آمو داريا شمال البلاد، بقيمة 540 مليون دولار، تُعدّ باكورة الاستثمارات الكبرى في أفغانستان في عهد «طالبان». كما أنها تُعدّ إنجازاً مهمّاً لـ«ديبلوماسية الجوار» الأفغانية، بوصفها أداة فاعلة في إقناع الدول الأخرى بالاستثمار في الاقتصاد الأفغاني المتعثّر.