بعد طول أخذ وردّ، وتضارب التحليلات في شأن مصير زعيم «فاغنر»، يفغيني بريغوجين، وجماعته، ربطاً بما بات يُعرف بـ«انقلاب حزيران» في روسيا، جاءت الأنباء عن مقتل الرجل في تحطّم طائرة شمال موسكو، لتُسدل الستارة على قصة «القيصر والطباخ»، بنهاية دراماتيكية. مصرع بريغوجين، ومعه نحو 9 شخصيات، من بينهم مؤسّس الجماعة ديميتري أوتكين، يمكن إدراجه في خانة المؤكّد حتى الساعة، مع التداول بالخبر من قِبَل حسابات تابعة لشركة «فاغنر» على موقع «تلغرام»، فضلاً عن الصور المتداولة لهيكل الطائرة المحطّمة ونوعها ورقمها المتسلسل، وكلّها تنطبق عليها مواصفات طائرة بريغوجين الخاصة، «Embraer Legacy 600» البرازيلية الصنع. وفي حين لا يستبعد البعض أن يكون حادث التحطّم ناجماً عن خلل فني، يرجّح خبراء عسكريون، بالاستناد إلى المقاطع المصوّرة لسقوط الطائرة، تعرّض الأخيرة لعملية تفجير بعبوة ناسفة بعد إقلاعها، مع وجود احتمال أيضاً لأن يكون قد تمّ إسقاطها بواسطة صاروخ مضادّ للطائرات، على خلفية تسريب معطيات عن تضرّر بالغ لحق بأحد جوانبها.

«الاغتيال الحادث»، إذا جاز التعبير، يوفّر إجابة قاطعة لا تقبل الشكّ على جملة تساؤلات راودت المراقبين خلال الأسابيع الماضية، وتمحورت حول نوع العقوبة التي يمكن أن يكون الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد قرّر أن ينزلها بحق صديقه القديم، جرّاء تمرّده على قياداته، وحول مصير وساطة نظيره البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، و«الضمانات الأمنية» التي أعطيت لبريغوجين بمقتضى هذه الوساطة، على رغم بقاء تساؤلات أخرى متّصلة بالحدث نفسه وحيثياته، معلَّقة في انتظار نتائج التحقيق الذي أعلنت السلطات الروسية الشروع فيه. وإذا كان زعيم «فاغنر» قد حشر من حدّدهم منذ بدء «انقلاب حزيران» كهدفين أساسيين، وهما رئيس هيئة الأركان فاليري غيراسيموف، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، في لعبة التوقيت الذي اختاره لبدء تحرّكه، مستفيداً من امتلاكه عنصر المبادرة أو المباغتة، غير أنه، ومنذ اللحظة التي وافق فيها على وقف تقدّم مقاتلي جماعته نحو العاصمة الروسية، بدا وكأن عنصر المبادرة قد انسحب من يده وبات في يد الكرملين.
ومع انتقال «كرة الأزمة» إلى ملعب بوتين، على وقع الوساطة البيلاروسية، دأب الأخير على شنّ ما وصفه محلّلون بـ«حملة ناعمة» ضدّ «الفاغنريين»، عبر انتهاج تكتيك التحكّم صعوداً وهبوطاً بـ«ريتم» المواجهة الحامية، ولكن الأقلّ صخباً، مع بريغوجين مذّاك. إذ أَوكل إلى وسائل الإعلام الروسية دوراً ثابتاً يقوم على ترسيخ بريغوجين بصورة «المتمرّد الخائن»، بالتوازي مع تذبذب الإشارات من جانب سلطات موسكو في شأن الفضاءات السياسية والعسكرية المتاحة أمام الرجل، والتي تراوحت بين مستويات سلبية أحياناً تجلّت بادئ الأمر في إعلان نفيه إلى بيلاروسيا، وأخرى إيجابية في أحيان أخرى حملها لقاء جمعه ونحو 35 من قيادات «فاغنر» ببوتين. للوهلة الأولى، بدا واضحاً تمسّك الكرملين بالحفاظ على المجموعة لأسباب عدّة، بحيث حاول معالجة الأزمة بأقلّ الأضرار الممكنة في ظلّ حجم التأثير الذي يتمتّع به بريغوجين على قادة «فاغنر»، وبعض قطاعات الجيش على حدّ سواء، ومنهم جنرالات كالجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي وُضع قيد الإقامة الجبريّة على خلفية تورّطه في الانقلاب، وفق ما أفادت به تقارير غربية.
إلّا أنه في خضمّ مساعيها منذ ما بات يُعرف بـ«انقلاب اليوم الواحد»، لإرساء أسس مختلفة في التعامل مع مرتزقة «فاغنر»، ذات الأهمية البالغة بالنسبة إلى السياسة الخارجية الروسية، وجدت موسكو نفسها بين مطرقة فقدان ثقتها بالعديد من قيادات الجماعة، وبين سندان حاجتها إلى تكليف قيادة جديدة لها، وهو ما بدا تحقيقه متعذّراً في مرحلة من المراحل، قبل أن يجد صنّاع القرار الروس ضالّتهم في الجنرال المتقاعد، والرئيس التنفيذي لـ«فاغنر»، أندريه تروشيف، قبل أن تعلن «فاغنر»، في وقت سابق، إقالته، على خلفية تباينات في الرأي بينه وبين بريغوجين، ومحاباته لبوتين. وممّا راج أخيراً، هو أن تروشيف، الذي يُنسب إليه الفضل في إدارة معارك باخموت، وصاحب السجل العسكري الحافل في الحروب كافة التي دخلتها روسيا في عهد بوتين، بما جعله أحد قادة «فاغنر» الأربعة الكبار المكرّمين في الكرملين عام 2016، بوسام «النجم الذهبي»، وهو أعلى وسام في روسيا، كمكافأة على أدوارهم في سوريا، وأوكرانيا، ومناطق أخرى، يمكن اعتباره المرشّح المفضل لدى الكرملين لتزعّم الجماعة خلفاً لبريغوجين.
تفاصيل كثيرة عن الساعات الأخيرة في حياة بريغوجين، في حال تأكّدت فرضية موته، ستبقى حبيسة الصندوق الأسود


وبحسب محلّلين، فإن بوتين اختار الشدّة واللين في آن، لتقدير حجم العقوبة ضدّ «الانقلابيين»: هكذا، وفق هؤلاء، اختار الرئيس الروسي «أنصاف الحلول» كمرحلة أولى كَفِلت له إطلاق مسار هو أشبه بتصفية وجود «فاغنر» في داخل البلاد، والاستعاضة عن ذلك الوجود بتسجيلها قانونياً على الأراضي البيلاروسية، ناهيك عن إطلاق يدها في الساحات الخارجية، بخاصة في أفريقيا، في انتظار أن تستتبّ الأمور للكرملين مع شركائه الأمنيين هناك، واستيعابَ تبعات تحييد «الفاغنريين» عن مسرح الحرب الأوكراني تدريجياً عقب تسليم أسلحتهم للجيش الروسي مطلع تموز الماضي. وشكّل نجاح المرحلة الأولى، أحد المحدّدات الرئيسة لبدء المرحلة الثانية ممّا يصفه محلّلون بـ«الانتقام البارد»، وهو التوصيف نفسه الذي استخدمه مدير المخابرات المركزية الأميركية، ويليام بيرنز، على هامش مشاركته في مؤتمر أمني داخل الولايات المتحدة الشهر الفائت، في معرض استشرافه أفق العلاقة بين الرئيس الروسي وقائد «فاغنر».
والواقع أن هذه المرحلة استشرف محلّلون موعد انطلاقها قبل أيام، حين زار الرئيس الروسي، بصحبة رئيس أركانه غيراسيموف، مقرّ القيادة العسكرية الجنوبية في مدينة روستوف (سيطر عليه عناصر «فاغنر» خلال ساعات من إعلان التمرد ضدّ كلّ من غيراسيموف وشويغو)، بقصد الإيحاء بحسم اصطفافه العلني إلى جانب غيراسيموف في وجه انتقادات بريغوجين لأداء القيادة العسكرية الروسية في حرب أوكرانيا، وبأن المدينة طوت صفحة «الانقلاب»، كما بقصد التأكيد أن حجم حضور السلطات الروسية المركزية، ممثّلةً بقيادتَيها العسكرية والسياسية، في المدينة الواقعة على مسافة لا تزيد عن 100 كلم من الحدود الأوكرانية، لا يقلّ عن حجم حضورها في موسكو. وفي وقت ظنّ فيه كثيرون أن بوتين «باقٍ على عِشرة» صديقه المقرّب، أقلّه على المستوى الشخصي وليس السياسي، اتّخذ ذلك الانتقام شكله النهائي، على ما يبدو، بطريقة «اغتيال» ألِفتها الساحة الروسية مطلع عهد بوتين، ضمن سلسلة اغتيالات طالت قيادات عسكرية، من بينهم المرشّح للانتخابات الرئاسية، الجنرال ألكسندر ليبيد، الذي قضى في تحطّم طائرة «هليكوبتر»، على غرار بريغوجين.
ومما لا شكّ فيه، فقد أسهم قرار السلطات الروسية تنحية قائد سلاح الجو، سوروفيكين، في اليوم نفسه لواقعة تحطّم طائرة بريغوجين، في رفع أسهم فرضية وجود عملية اغتيال مدبّرة للأخير. وبصرف النظر عمّا إذا كانت تحرّكات بريغوجين في الآونة الأخيرة، سواءً في الداخل من خلال القمّة الأفريقية - الروسية الأخيرة في سان بطرسبورغ حيث التقى بعدد من القادة الأفارقة، وأيضاً حركة انتقالاته بين العاصمة موسكو وسان بطرسبورغ وصولاً إلى واقعة التحطّم خلال رحلة بين المدينتَين، أو في الخارج، وتحديداً من خلال انتقاله إلى القارة السمراء لمهمات عسكرية، قد جاءت برضى من الكرملين، إلّا أنه بات من الواضح أن تلك التحركات باتت تثير علامات القلق لدى الأخير، قبل أي اعتبارات أخرى، وهي علامات أسهم الإعلام الغربي، بقصد أو من غير قصد، في تغذيتها، عبر الاستغراق في «النفخ» في «هالة بريغوجين»، مع تأويلات متعدّدة لواقعة «انقلاب فاغنر» بصورة جعلت من مسألة إنهاء حياته حتمية، بالنسبة إلى الكرملين. ولأن الانقلابات الفاشلة عادة ما تكرّس رؤساء أقوياء، ينمّ المشهد الدرامي لنهاية «المتمرّد الجدلي» بالأمس عن حقيقة مماثلة. ومع أن الحكومة الروسية سارعت إلى توجيه اتّهامات إلى كييف بالضلوع في إسقاط الطائرة، غير أن تفاصيل كثيرة عن الساعات الأخيرة في حياة بريغوجين، في حال تأكّدت فرضية موته، ستبقى حبيسة الصندوق الأسود، إلى أن تكشف عنها لجنة التحقيق الخاصة الرسمية بالحادثة، ما يعني أن الملابسات المعلنة ستبقى أحادية المصدر، شأنها شأن «قصة انقلاب فاغنر».