يكشف الاهتمام الذي حظيت به قمّة مجموعة «بريكس»، خلال الأيام الثلاثة الماضية، وتنافس البلدان على حجز أمكنة لها بين أعضائها، وزن «الخروقات» التي نجحت الكتلة في مراكمتها خلال السنوات الماضية من جهة، وتطلّع بلدان كثيرة حول العالم إلى فكّ التبعية «المفرطة» لواشنطن، بعد «الفراغ» الذي تأتّى عن «تقاعسها» في تلبية احتياجات العديد من الدول، والناشئة منها تحديداً. ومع ترحيبها بستّة أعضاء جدد، أثبتت المجموعة أنها متماسكة وقادرة، أكثر من أيّ وقت مضى، على تحدّي أهداف واشنطن الجيوسياسية والاقتصادية. «إنهاء الحرب الأوكرانية بالطرق السلمية»، و«توسيع استخدام العملات المحلية»، و«بناء عالم أكثر إنصافاً»؛ شعاراتٌ تمحورت حولها خطابات قادة «بريكس»، أي كلّ من رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامابوسا، ورئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، والرؤساء: الصيني، شي جين بينغ، والبرازيلي، لولا دا سيلفا، والروسي، فلاديمير بوتين، الذي شارك في القمة افتراضياً، ممثَّلاً حضورياً بوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي سافر إلى مدينة جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا، حيث انعقدت القمّة الخامسة عشرة للمجموعة من الثلاثاء إلى الخميس.على أنّ ما تصدّر أولوية المباحثات، خلال الأيام الثلاثة الماضية، هو «توسيع بريكس»، الأمر الذي أفضى أخيراً إلى ما وصفه رامابوسا بـ«توافق» بشأن المعايير والإجراءات المتعلّقة بالتوسيع، ليعلن بالتالي انضمام ستّ دول إلى «بريكس»، هي: الأرجنتين ومصر وإيران وإثيوبيا والسعودية والإمارات، اعتباراً من الأول من كانون الثاني 2024. خطوةٌ تعكس مدى إصرار الدول، من حلفاء الولايات المتّحدة و«خصومها» على حدّ سواء، على تنويع خياراتها، وربّما البحث عن خيارات أكثر «أماناً» من التبعية المفرطة للغرب، ضمن إطار «التكيّف مع التطورات الحاصلة» في العالم، على حدّ تعبير رئيس الوزراء الهندي. ولدى انضمام الدول الستّ، ستشكّل المجموعة 37 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، وما نسبته 46 في المئة من عدد سكان العالم. ويفسّر مراقبون التطوّرات الأخيرة بالإشارة إلى أن الممارسات الغربية «العدائية»، و«عدم الثقة» بتقلّبات الدولار، وغيرها من العوامل، هي التي خلقت رغبة متزايدة لدى العديد من الدول في الدفع في اتّجاه نظام بديل عن الذي تقوده الولايات المتحدة، وهو ما انعكس بإعلان رقم قياسي من الدول (حوالي 40، 23 منها بشكل رسمي) رغبتها في الانضمام إلى المجموعة، بحسب مجلة «فورين أفيرز» الأميركية، في وقت دُعي فيه أكثر من 67 من قادة العالم وكبار الشخصيات إلى الحضور.
والأكيد أن ما دفع أيضاً دول الجنوب والغرب، على حدّ سواء، إلى مراقبة القمة عن كثب، هو نجاح «بريكس» في فرض نفسها «بقوة» على الساحة العالمية خلال السنوات الماضية. فهي كانت تمثّل، قبل انضمام الدول الستّ، 41 في المئة من سكان العالم، و31.5 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، و16 في المئة من التجارة العالمية. أي بمعنى آخر، باتت تتمتّع بوزن «تفاوضي» كبير في ما يتعلّق بأيّ قضية، في حال عملت معاً، وهو ما تقوم به، بحسب المراقبين، بشكل متزايد أخيراً، ضاربةً عرض الحائط بالأصوات التي تزعم أن الانقسامات بين الدول الأعضاء ستحول دون تحقيق المجموعة العديد من أهدافها، على غرار إنشاء عملة مشتركة، في وقت أثبتت فيه «بريكس» قدرتها على تخطّي الأزمات الكبرى، على غرار الاشتباكات الحدودية بين الصين والهند بين عامَي 2020 و2021، وأخيراً، التوصّل إلى إجماع على توسيع التكتّل.
فشلت الولايات المتحدة في سدّ الثغرات في التمويل الذي تحتاج إليه الدول النامية


وإلى جانب انضمام الدول الستّ، تكاد المؤشّرات جميعها تؤكد أن قمّة «بريكس» هذه السنة كانت الأكثر «استثنائية»، لا لأنّها أوّل قمة تُعقد وجهاً لوجه منذ ثلاث سنوات فحسب، بل لأن المحطات التي مهّدت لها، خلال السنوات الماضية، كانت استثنائية بحدّ ذاتها؛ والأخيرة تبدأ من «تقاعس» الولايات المتّحدة المتزايد عن تلبية متطلّبات الدول الصاعدة، والصدمات التي سبّبها وباء «كوفيد» للاقتصادات الناشئة، ولا تنتهي عند الحرب الأوكرانية وما تأتّى عنها من فرض عقوبات اقتصادية على موسكو، أجّجت المخاوف لدى دول عدّة حول العالم من أن يتكرّر، في محطّة ما مستقبلاً، السنياريو نفسه معها، وهو ما عبّر عنه بوضوح رئيس جنوب أفريقيا، خلال افتتاح القمة الأخيرة، عندما أشار إلى أن دول المجموعة ينتابها «قلق» من «أنظمة الدفع المالية العالمية الحالية»، باعتبار أنها تُستخدم «كأدوات في الصراعات الجيوسياسية». وفي السياق نفسه، تنقل «فورين أفيرز» عن سارانغ شيدور، مدير «برنامج الجنوب العالمي»، في «معهد كوينسي الأميركي للأبحاث»، قوله إنه بالرغم من الصعوبات التي تأتّت عن الحرب الأوكرانية والوباء خلال الفترة الماضية، فإن واشنطن «لم تقدّم سوى القليل من الدعم لدول الجنوب، بل تابعت، بدلاً من ذلك، حملتها الشرسة لرفع أسعار الفائدة، ما أدّى إلى تفاقم الاضطرابات الاقتصادية في جميع أنحاء العالم».

مؤسسات «رديفة»
على الصعيد المالي، وافقت دول «بريكس»، حتى الآن، على جمع 100 مليار دولار من العملات الأجنبية، «يمكن أن تقرضها لبعضها البعض في حالات الطوارئ»، وبدأت بتشغيل هذه السيولة في عام 2016. كما أسّست المجموعة، عام 2015، «بنك التنمية الجديد»، وهو يشبه، من حيث الشكل فقط، «البنك الدولي». فعلى عكس الأخير، تمتلك البلدان النامية حصّة تصويت أكبر بكثير في البنك الجديد، الذي يقدّم أيضاً بعض القروض بالعملة الوطنية للبلد المقترض بدلاً من الدولار، وسط طموحات إلى أن تصل نسبة القروض بالعملات المحلية إلى 30% بين عامي 2022 و2026، بحسب صحيفة «واشنطن بوست»، التي تابعت أن التجارة بين أعضاء الكتلة ارتفعت، بدورها، بنسبة 56 في المئة، لتصل إلى 422 مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية. وقبيل القمة، قال كبير مسؤولي التشغيل في «بنك التنمية»، فلاديمير كازبيكوف، إن البنك أصدر أوّل سنداته بالراند، العملة الرسمية في جنوب أفريقيا، الأسبوع الماضي، ومن المتوقّع أن يدرس إصدار سندات بالعملة المحلية في الدول الأعضاء مثل البرازيل وروسيا، وسط احتمالية أيضاً لـ«طرق أبواب السوق الهندية (الروبية)، بحلول تشرين الأول». وبحسب ما تنقل مجلة «فورين بوليسي» عن الخبير الاقتصادي، دانيال سوزا، من جامعة «إيبميك» البرازيلية، فإن القروض التي لا تكون بالدولار الأميركي «تحمي المقترضين من تقلّبات قيمته».
أمّا ما يعطي مثل هذه المؤسّسة أهمية وزخماً أكبر، فهو «فشل» الولايات المتحدة في سدّ الثغرات في التمويل الذي تحتاج إليه الدول النامية. ويرى أصحاب هذا الرأي أنه إذا تمّ جمع أموال «البنك الدولي»، وغيره من البنوك والمؤسسات المشابهة، فلن تكون المحصّلة كافية لتمويل جميع المشاريع التي تحتاج إليها البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، في مواجهة أزمة المناخ واحتياجات التنمية الأخرى. وذلك على الأرجح ما دفع بقادة القمة، وعلى رأسهم، الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، إلى التشديد مجدّداً، خلال اللقاء الأخير، على الحاجة «إلى نظام تمويل عالمي، يساعد الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض». في المقابل، وافق «بنك التنمية الجديد»، حتى الآن، على قروض بقيمة أكثر من 32 مليار دولار، خُصّصت بشكل رئيسيّ لمشاريع المياه والنقل والبنية التحتية الأخرى، علماً أن جنوب أفريقيا وحدها اقترضت مليار دولار في عام 2020 لمكافحة وباء «كوفيد».

العملة الجديدة «قادمة»؟
على الرغم من أن «ضرب» هيمنة الدولار، وطرح عملة جديدة، لا يمكن أن يحصلا بين ليلة وضحاها، في وقت لا تزال فيه 88 في المئة من المعاملات الدولية تتمّ بالدولار الأميركي، ويمثّل الأخير 58 في المئة من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، فإن العديد من المحلّلين يرون أنه حتى من دون إصدار عملة «على الفور»، فلا يجب إغفال الخطوات الكبيرة التي اتّخذتها الدول الأعضاء في هذا الملفّ حتى الآن، بعدما نجحت في بناء شبه «منصّة» ضخمة تجمع المسؤولين الحكوميين والشركات والأكاديميين، وبات تنسيق العديد من المسائل المالية يحصل بين وزراء مالية هذه الدول ومصارفها المركزية، مذكّرين بأن «بريكس» نجحت سابقاً في «كسر» جميع التوقّعات.

غياب منطق «الهيمنة»
من جهتها، ركّزت الصين، بشكل خاص خلال القمّة، على تعزيز التعاون مع القارة الأفريقية، وسط مخاوف غربية متزايدة من ميل الأخيرة، التي تشهد اضطرابات متكرّرة، نحو تعميق تقاربها مع موسكو وبكين. وفي هذا السياق، يؤكد السفير الصيني في لبنان، تشيان مينجيان، في حديث إلى «الأخبار»، أن «التضامن والتعاون مع البلدان الأفريقية هما حجر الزاوية في السياسة الخارجية للصين، وخيارنا الاستراتيجي الطويل الأمد والمتين». وفي ردّه على القول إن بكين، التي تتمتّع بأكبر اقتصاد بين دول «بريكس»، تهدف إلى تكبير المجموعة بهدف «توسيع هيمنتها» في العالم، يجيب مينجيان بأن الهدف الأخير من مثل هذه القمة هو تعزيز «الانفتاح والشمولية ومبدأ الربح المشترك». وليست بكين وحدها التي تتبنّى ذلك الموقف؛ إذ خلُصت أبحاث فريق من الباحثين، في «جامعة تافتس» الأميركية، درست «بريكس» وتطورّها لسنوات طويلة، إلى أن المحاولة الشائعة لتصوير المجموعة على أنها «تهيمن» عليها الصين، هي «في غير محلّها»، بل ما يجمع بين أطراف تلك الكتلة فعلياً، بحسب المصدر نفسه، هو المصالح الإنمائية المشتركة، والسعي لإرساء نظام عالمي متعدّد الأقطاب، لا تهيمن فيه قوة واحدة. وعليه، يضيف مينجيان إن الصين وجنوب أفريقيا تستغلّان هذه الفرصة لـ«تعزيز الحوار والتعاون بين مجموعة (بريكس)، وأفريقيا والأسواق الناشئة الأخرى، والبلدان النامية، وإرسال رسالة قوية لحماية تعدّدية الأطراف، والتركيز على التنمية المشتركة للجنس البشري».