«اتفاق بكين» وضع أرضية للتعاون بين قطبين ينطلقان من نظرتين متباينتين أيديولوجياً، وفي تحالفاتهما الدولية، وبشأن المنطقة، وأي مسار يجدر بها سبره لتحقيق أفضل مستقبل لشعوبها. وهذا يُحسب للرياض وطهران. فعلى رغم اختلاف «جلديهما»، و«حمضيهما النووي»، ونظرتيهما لأميركا و«إسرائيل» و«حزب الله»، يمكنهما توطيد العلاقات بينهما في أمور كثيرة.ويمكن عرض الأمور الثمانية التالية، بوصفها تفسيرات وعلامات حاسمة للاتفاق:

أولاً: وقف إطلاق النار
التوافق بين الدولتين، يمكن تأويله قبولاً فورياً بوقف «دائم» للنار، على كل جبهات الاشتباك بينهما. وبالفعل، حدث تجميد للصدامات في سوريا واليمن، وبين الأخير والجيش السعودي، الذي أوقف قصفه بعد الدمار الذي طال منشآت «أرامكو» النفطية (2019)، لكن أيضاً بعد أن أدمى اليمن، وألحق ضرراً فادحاً به.
وفي ما يخص العراق ولبنان، لا يُتوقَّع أن يحشو الإقليم فوهات بنادق أطرافهما، والمناوشات الموضعية التي نراها جزء «أصيل» من المشهدين البيروتي والبغدادي، ومن المرجح استمرارها ضمن أفق «مضمون العواقب»، وكأن الأميركيين واللاعبين الإقليميين الذين دمروا هذين البلدين يوجّهون بذلك خطاب تحذير. العراق مثّل التجربة الأولى في نجاح وقف النار الإقليمي، وهذه مفارقة، بالنظر إلى معاناة بغداد الطويلة من الانتحاريين المدعومين سعودياً. علاوة على ذلك، يصح القول إن وقف النار يشمل البحرين.

ثانياً: الخرائط الجغرافية
«مسار بكين» يمكن تفسيره على أنه «أخذ علم» بـ«الخرائط الجغرافية» التي انتهت إليها حروب العقد الدامي، وهذا يعني أن على الأطراف احترام حدود التماس التي وصلتها دباباتها.
هذا واضح في اليمن، حيث تقف حكومة صنعاء على حواف المناطق التي تمكّنت من بسط سيادتها عليها، من دون التوغل في مأرب وتعز، وفي الجنوب. وبطبيعة الحال، على الطرف اليمني المدعوم أميركياً وسعودياً تنفيذ الالتزام ذاته.
والتقسيم واضح على الخريطة السورية، فلا يتحدّث المسلحون عن اقتحام الأقاليم التي طُردوا منها، ولا تتحدّث دمشق عن مداهمة إدلب، بل ولا ينفّذ إردوغان تهديداته باجتياح النواحي الواقعة تحت قبضة الجماعات الكردية، المدعومة أميركياً، وكذلك مناطق «داعش». وإذا أرادت أميركا قطع التواصل الإيراني - السوري عبر العراق، فهذا كفيل بإحداث توتر.

ثالثاً: انتصار حلفاء طهران
صفقة بكين يمكن أن تُفسَّر أيضاً على أنها «إقرار» من طرف الرياض بتحقيق حلفاء طهران انتصاراً مكلفاً في دمشق، وصنعاء، وبيروت، وبغداد، مع ما جرّته السعودية ومناصروها، بقيادة واشنطن، من دمار وجراح على الإنسان والبنية المجتمعية والاقتصاد، حيث احتفظ الرئيس بشار الأسد بحكومته، وما زال «أنصار الله» القادمون من صعدة الرقم الرئيس في شمال اليمن، ويقود محمد شياع السوداني حكومة عراقية بدعم من حلفاء طهران، وما زال التحالف المقاوم في لبنان قادراً على خلق أكثر من مجرّد توازن مع حلفاء السعودية القادرين على تخريب الملعب، لا السيطرة عليه.

رابعاً: انتصار حلفاء الرياض
تَوافق بكين يُفهم منه أن إيران «أخذت علماً» بتحقيق خصمها «انتصاراً» في البحرين. فقد تمكّنت الرياض من تثبيت نفوذها في الجزيرة، في لحظة مبكرة من عام 2011، حين تدخّل الجيش السعودي للفتك بـ«دوار اللؤلؤة»، بضوء أخضر أميركي. وكانت السعودية قد ضمنت يداً عليا في البحرين، نهاية ستينيات القرن الماضي، حين توافق البريطانيون والشاه محمد رضا بهلوي، على حصول إيران على الجزر الثلاث في الخليج مقابل تخلّيها عن المطالبة بالبحرين.

خامساً: الوعي بالتعقيدات المحلّية
أُضيف بند حاسم لتأويل الاتفاق، وهو إدراك الطرفين التعقيدات الداخلية، والمنافسات البينية، والإشكاليات الجهوية والطائفية والقومية والسياسية في كل بؤرة من مراكز الاشتباك، فضلاً عن تباين التحالفات، واختلاف الأيديولوجيات، وضعف القانون، وانعدام التوافق، وثقل التاريخ، وقلق المستقبل.
الخلاف اليمني ليس إيرانياً - سعودياً فقط، بل نتاج حالة محلّية مضطربة، زادها هياجاً استئثار علي عبد الله صالح بالشمال والجنوب، ودخوله معارك مع «أنصار الله»، استغلتها السعودية لإضعاف جارها وإبقائه حديقة خلفية، حتى باستخدام القوة، ما دامت بغطاء أميركي. لكن ذلك ينكسر الآن، والسعودية تدرك وجود «حزب الله» يمني على حدودها، وتأمل أن تتفاهم معه أمنياً، حصراً، وألّا يتطور ذلك إلى تفاهم سياسي وتنموي.
يمكن لليمنيين الشكوى من إيران والسعودية، لكن الأخيرتين تمنحان التفاعلات اليمنية فرصة للوصول إلى تسويات، والتلاقي على طاولة حوارية يتم فيها التراضي حول الثروة والسلطة وهوية جامعة، أو حتى إنجاز تسويات مؤقتة، شرط أن يدرك المتخاصمون أنه لا يمكن لأي منهم القفز على مخرجات السنوات العشر الأخيرة.
أما دمشق، فتواجه تحديات داخلية، سياسية وتنموية، قبل حرب 2011 وبعدها، توجب على أطرافها العمل على علاجها، باستثمار الأجواء الإقليمية «الإيجابية»، التي تحاول أن تظهر أنها لا تتعالى على التفاعلات السورية. وليس خطأ الاستعانة في ذلك بصديق. والمنطق ذاته يسري على لبنان.
كما على الأطراف البحرينية التفاهم وتجاوز الهياكل القديمة التي بنيت السلطة على أساسها، منذ نحو 240 عاماً، في ضوء ما اعتُبر انتصار القبائل القادمة من الزبارة على العشائر والأسر العربية الشيعية (البحارنة) التي تسكن الجزر البحرينية، تاريخياً، وقد تم ذلك في لحظة ضعف «فارس» التي كانت تسطير على الجزر وقتئذ.

سادساً: أوسع من اتفاق ثنائي
التوافق «ثنائي» من الناحية الرسمية، والأبعاد الداخلية للمضي في «مسار بكين» لا تخفى، ما دامت السياسة الخارجية انعكاساً للتوجهات الداخلية. لكن دواعي إبرام الاتفاق تقف في قلبها هواجس وهموم إقليمية، بسبب الإنهاك الذي طال الأطراف جميعها، والتي بادرت أو دُفعت أو اضطرّت للتورط في حروب دموية ومعقدة، ولم يكن المتغيّر الجيوسياسي الدولي بعيداً عنها، وقد زاد اشتداده بين المحورين: الأطلسي والأوراسي، على نحو يسير بالعالم على حافة الهاوية، بالقرب من روسيا والصين، النوويتين، الرافضتين للهيمنة الأميركية.
التهدئة التي يُرجى أن تنمو وتثمر مصالحة، لا تعني البلدين وحسب، وإنما تهم الإقليم برمته، وخصوصاً مناطق الاشتباك، التي من حقها أن تسأل عن مصيرها. وأن تأمل ألّا يتم الاكتفاء بصب ماء بارد على جراحها، ووضعها في الثلاجة.

سابعاً: ذات معنى سياسي
يؤمل أن يمنح اتفاق بكين، وقف النار على جميع خطوط المواجهة، شرعية ومعنى سياسياً، لا أن ينحصر في تجميد القتال. وهذا ما يجعل الكثيرين يرجون تحوّل التهدئة إلى تسويات، في منطقة اعتادت، واعتاد الغرب المتحكم في مفاصلها، على نبش فتنها النائمة، ثم تفادي إيجاد حل «جذري» لها، وإجبار المتنازعين على التكيّف مع الوضع المجمّد.

ثامناً: حرب إقليمية ثانية
استمرار الصراعات في لبنان وسوريا واليمن وغيرها باعث على القلق، والأخطر منه تحوّل المرحلة الراهنة إلى فترة استعداد لجولة أخرى، أشبه ما تكون بـ «حرب إقليمية ثانية» أكثر وطأة: ألا نشاهد سباقاً للتسلح، تحسباً لقرار بتفجير المنطقة من طرف أميركا، التي أوقفت حرب إقليمنا، لتشعل حرب أوكرانيا؟
والخشية في محلها، إذا أخفقت جهود ترسيخ اتفاق بكين سياسياً وعبر مشاريع اقتصادية مشتركة، وإطار أمني، وتعميمه على بؤر التوتر. لكن من إيجابيات الاتفاق تحييد السعودية عن أي عدوان تشنّه أميركا أو كيان الاحتلال ضد طهران.