يُعدّ الانقلاب في الغابون، في آب الماضي، المحاولة الانقلابية الـ11 الناجحة في أفريقيا، منذ عزل جيش زيمبابوي، الرئيس روبرت موغابي، في عام 2017، في انقلاب لم يحظَ في حينه بإدانة دولية، في ما فُسّر باعتباره قبولاً غربيّاً بالخطوة ضدّ واحدٍ من أهمّ غرماء بريطانيا وسياساتها «ما بعد الاستعمارية» في بلاده. وعلى رغم دعوة «الاتحاد الأفريقي» المبكرة، في عام 2009، إلى توجيه الانتباه نحو تجدُّد الانقلابات العسكرية في أرجاء القارّة، غير أنه ظلّ عاجزاً عن مواجهة الظاهرة، وقبلها عن مواجهة أسبابها، مكتفياً بردود فعل انتقائية وهزيلة. ودافع الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوسا، بقوّة (2 أيلول) عن أداء المنظّمة القارية، مبرّراً عجزها بالقول إنها تحتكم إلى قواعد وترتيبات محدّدة. ومع ذلك، جاء تعبير رامافوسا عن مخاوفه إزاء تنامي ظاهرة الانقلابات «في العامين الأخيرين»، ورغبته في وضع نهاية لها، ليؤشّر إلى عجز أفريقي واضح عن وقف هذه الحُمّى، بل والتوجّس من وقوع أخرى في دول من مثل الكاميرون ورواندا وبنين.
ضربات كاجامي الاستباقية: في مواجهة تغيير قواعد اللعبة
أبدى الرئيس الرواندي، بول كاجامي، في تصريحات مطلع الشهر الحالي، ضجره من السياسة الأميركية المعنيّة بالقيم وحقوق الإنسان، لأنها لم تعاقب أو تضغط على جمهورية الكونغو الديموقراطية لاستضافتها ودعْمها وحتى تعاونها مع بقايا قوات نظام الإبادة السابق (في بلاده). ورأى أن المسؤولين الأميركيين باتوا مدفوعين بالتكالب على المعادن المهمّة (في أفريقيا)، وأن انتقاد واشنطن لبلاده (على خلفية تورُّط الأخيرة في دعم حركات تمرّد في الكونغو الديموقراطية) مجرّد مسألة تخصّ المصالح الأميركية، وعدم تسليم الكونغو للصين، وأن الأميركيين والفرنسيين لا يقلقهم في مسألتَي النيجر والغابون سوى ضمان استمرار الوصول إلى الواردات المعدنية المطلوبة، وأنهم «لا يكترثون حقاً برفاهية المواطنين في هذين البلدين».
وتبدو تصريحات كاجامي، ضابط الاستخبارات السابق والذي يُصوّر محليّاً في إقليم وسط أفريقيا على أنه مجرّد «أداة غربية» وديكتاتور بواجهة إصلاحية، معبّرة عن مخاوف حقيقية لديه ولدى الكثير من القادة الأفارقة وثيقي الصلة بواشنطن أو باريس أو حتى قوى إقليمية باتت تلعب أدواراً متعدّدة المستويات لخدمة مصالح شركات وأطراف غير دولتية في القارة (مِن مِثل إسرائيل والإمارات)، إزاء مستقبل نظم حكمهم وعلاقاتهم بالمؤسّسة العسكرية داخلها. وفي الوقت نفسه، فإن توقُّع تبنّي كاجامي خطاباً «راديكالياً» في انتقاد الهيمنة الاقتصادية الغربية، يظلّ محكوماً بقدرته على المراوغة والإفلات من انتقادات غربية ودولية متكرّرة حول انتهاكات عنصرية (ارتقت إلى الإبادة وتعطيل العدالة الانتقالية) ارتكبها نظامه في حقّ مواطنين روانديين من إثنية الهوتو التي تمثّل أغلبية السكان، وتاريخه الحافل بدعم حركات التمرّد في الإقليم منذ مشاركته (كوزير دفاع ونائب للرئيس الرواندي) في دعم التمرّد على نظام موبوتو سيسي سيكو وإسقاطه (1997)، لتشهد الكونغو حرباً إقليمية بمشاركة ستّ دول، من بينها رواندا التي غزت قواتها إقليم شرقي الكونغو في آب من عام 1998، بدعم كبير من إثنية التوتسي في الإقليم الذي مثّل جبهة للصراع بين رواندا وأوغندا وبوروندي من جهة، وأنغولا وزيمبابوي وناميبيا من جهة أخرى (الداعمة لنظام لوران كابيلا، الحليف السابق لرواندا قبل حرب الكونغو الثانية).
وتمثّل نشأة كاجامي وتجاربه الصراعيّة منذ طفولته، لاجئاً في أوغندا، ثم عضواً مؤسِّساً في حركة تمرّد الرئيس الأوغندي الحالي، يوري موسيفني، منذ عام 1979، وتولّيه مهامّ رئاسة الاستخبارات هناك، حتى تولّى الأخير رئاسة البلاد في عام 1986، حائلاً دون وقوعه ضحية انقلاب مباغت على نحو ما جرى في النيجر أو الغابون في الشهرَين الأخيرَين. وتُعزّز التقديرَ المتقدّم، الخطوات الاستباقية التي بادر إليها كاجامي، الذي يمتلك شبكة تجسّس فائقة الكفاءة داخل البلاد، على خلفية انقلاب الغابون. فقد أحال إلى التقاعد (30 آب الفائت) أكثر من 80 ضابطاً في جيشه، إلى جانب تسريح مئات الجنود، في خطوة تلت ترقيتَه العديد من الجنود الشباب في الجهاز الأمني في البلاد، وتعيينه عدداً من الجنرالات الجدد في رئاسة وحدات الجيش المتمركزة في أجزاء متفرّقة (من بينهم مسؤول عسكري كبير واجه عقوبات أميركية بسبب تورّطه في التمرّد في الكونغو المجاورة). ويبدو أن هذا الحراك سيؤثّر على دور رواندا كشرطي أفريقي صاعد في القارة، وعلى خططها في دعم دول من مِثل بنين وتوغو وغانا وساحل العاج في غرب أفريقيا، لمواجهة تهديدات الجماعات الإرهابية على حدودها الشمالية، بحسب ما رشح عن اجتماع أخير بين كاجامي ورئيس بنين، باتريس تالون، في العاصمة البنينية، كوتونو، في نيسان الماضي.
شكّلت بنين أولى محطّات موجة التحوّل الديموقراطي في أفريقيا، نهاية ثمانينيات القرن الماضي


بنين والهروب من مصير الانقلاب من البوابة الصينية
شكّلت بنين أولى محطّات موجة التحوّل الديموقراطي في أفريقيا، نهاية ثمانينيات القرن الماضي، والتي رافقتها عملية إعادة بسط للهيمنة الفرنسية الاقتصادية الكاملة على مقدّرات البلاد بعد مشروع «تحرّري» سطحي قاده الرئيس المعزول وقتها، ماثيو كيريكو، الذي تأرجح بين «الماركسية العلمية» وبرنامج «صندوق النقد الدولي» وبنيوية السيطرة الفرنسية على اقتصاد بلاده. ويقود بنين، منذ عام 2016، الرئيس الحالي، باتريس تالون - وهو رجل أعمال بارز من إثنية الفون التي تشتهر تاريخيّاً بـ«تجارة العبيد» -، بعد حصوله على 65% من الأصوات في انتخابات ذلك العام. وتعهّد، في حينه، بالبدء في إصلاح دستوري، أبرز وجوهه تحديد مدّة الرئاسة في بلاده بفترة واحدة مدّتها خمس سنوات، وخفض عدد أعضاء الحكومة من 28 إلى 16، مع إلغاء منصب رئيس الوزراء. كما وضع هدف تعزيز علاقات بلاده مع فرنسا في مقدّمة أولويات سياسته الخارجية. وأُعيد انتخاب تالون، في عام 2021، بعد سجن أغلب قادة المعارضة، على خلفية تهم جنائية متفاوتة، من مِثل الإتجار بالمخدرات والتزوير.
ودان تالون الانقلاب في النيجر، وإنْ لم يدعم تدخُّل «إكواس» العسكري، في ما مثّل موقفاً دالّاً، ولا سيما أن بنين تُعتبر المنفذ البحري الأهمّ للنيجر (الحبيسة) على خليج غينيا، ويمرّ عبرها خط أنابيب بترول النيجر. كذلك، استقبلت كوتونو وزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف (26 آب)، لمناقشة سبل الوصول إلى حلّ سلمي للأزمة في النيجر. ويشير ما سلف، إلى اتباع تالون سياسات متوازنة نسبياً، عزّزها بزيارة دولة مطوّلة (4 أيام) إلى الصين (التي أعلنت قبل شهرين إعادة إطلاق استثمارات ضخمة في النيجر المجاورة، وفق استراتيجية بكين المعروفة بدعم مشروعات التكامل الإقليمي بين الدول الأفريقية)، مطلع العام الجاري، كشفت تفاصيلها عن رفع بكين وكوتونو علاقاتهما الثنائية إلى فئة الشراكة الاستراتيجية، وتعزيز دور الأخيرة في مبادرة «الحزام والطريق»، ودعم الصين لبنين في ملفّات مواجهة الإرهاب والتعاون الأمني والتنسيق في ما يخصّ الشؤون الدولية، فيما عبّر تالون عن رغبة حكومته في الاستفادة من التجربة الصينية في تعزيز التحوّل الصناعي والتنمية الوطنية في البلاد.
ومثّلت خطوات تالون، ولا سيما زيارته إلى الصين، جهداً واضحاً لتفادي وقوع انقلاب في بلاده المرشّحة بقوّة لوقوع انقلاب في ظلّ تشابه الظروف الاقتصادية الضاغطة فيها، مع نظيرتها في دول الساحل الأفريقي، وكذا بعد أعمال عنف ضدّ جنود في الجيش البنيني (لا يتجاوز عديده خمسة آلاف جندي ويحلّ في المرتبة 144، أي قبل الأخيرة، في تصنيف «غلوبال فايرباور» للقوى العسكري في العالم) نهاية آب الفائت، قال الجيش إنها هجمات للصوص مسلّحين.

الكاميرون والهروب من الانقلاب: الأسد في الشتاء!
وفي سباق القادة الأفارقة لتفادي «انقلابات مباغتة»، أو ما وُصف بـ«أثر الدومينو في أفريقيا»، بادر الرئيس الكاميروني، بول بيا (90 عاماً)، أحد أكبر رؤساء العالم عمراً وأكثرهم بقاءً في السلطة (يحكم منذ عام 1982)، إلى إقالة عدد من كبار قادة قواته المسلّحة، نهاية آب الماضي، وعيّن عدداً من المسؤولين الجدد في وزارة الدفاع. ووضع محلّلون هذه الخطوة في سياق مواجهة بيا، الذي وطّد صلات متينة بين نظامه ومؤسّسات أمنية وعسكرية إسرائيلية وروسية على حدّ سواء، في السنوات الأخيرة، معضلة التحوّل المركزي لإدارة بلاده وتجدُّد أزمة المناطق الناطقة بالإنكليزية فيها (يمثّل سكانها نحو 20%)، بين القوات المسلّحة الانفصالية في هذه المناطق والقوات النظامية الكاميرونية. وتمثّل أغلب دول جوار الكاميرون نقاط أزمات ساخنة، وهي: نيجيريا، تشاد، جمهورية أفريقيا الوسطى، جمهورية الكونغو الديموقراطية، الغابون وغينيا الاستوائية، بيئة إقليمية خصبة لتدهور الأوضاع في أرجاء البلاد كافة، وليس في مناطق «الأنجلوفون» فقط. لكن يبدو أن خطوات بيا ستكون ذات تأثيرات محدودة للغاية وقصيرة المدى، لأن تكتيكات الانقلابات الأخيرة، ومن بينها ما وقع في الغابون المجاورة، كشفت عن رهْنها بسلوك أو استجابة محدّدَين من قبل النظام القائم، من مِثل ربط الانقلاب بنتائج الانتخابات في حالة الغابون، بحسب تقارير أخيرة مطلع الجاري.

خلاصة
سُجّلت في العديد من الدول الأفريقية خطوات استباقية شملت تغييرات في قيادات عسكرية بمستويات مختلفة، وتساوت في ذلك نظم حكم «ديموقراطية» وأخرى استبدادية معروفة (من بينها أوغندا أيضاً). وكشفت هذه الإجراءات عن مخاوف حقيقية من وقوع انقلابات تستهدف حكومات هذه الدول ورؤسائها، وتأتي - بحسب المعلن - لتلبية تطلّعات شعبية باتت ملحّة إلى تغيير الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المزرية، من دون ضمانة في المحصلة بإيجابية هذا التغيير أو قدرة الرؤساء الحاليين على الاستجابة للمطالب الشعبية، مع استمرار التعويل على الأدوار الخارجية كعامل حاسم في المسارَين كليهما.