وكان ستارمر شنّ، طوال الأشهر الماضية، حملةً لنقل تموضع الحزب الذي تشترك في تركيبته النقابات العماليّة، من يسار الوسط إلى اليمين، وذلك بعد الخسارة القاسية التي مُني بها في الانتخابات العامّة الأخيرة تحت قيادة جريمي كوربن، الذي استبعده الزعيم الحالي من الحزب، ومنعه من تمثيل منطقته السكنية على لوائح «العمّال» في الانتخابات المقبلة. ويحاول ستارمر الذي اعتُبر بدايةً حلاً وسطاً بين يمين الحزب (تيّار بلير)، ويساره (تيّار كوربن)، استعادة مزاج «حزب العمل الجديد» الذي قاده بلير بين عامَي 1994 و2007، ونجح من خلاله في كسْر هيمنة «المحافظين» على السلطة (استمرّ الحزب في السلطة بين عامَي 1997 و2010). وأثارت التعيينات الأخيرة التي أقدم عليها، حنق مَن تبقّى من اليساريين على ذمّة الحزب، إذ وَصف أحدهم حكومة الظلّ الجديدة بأنها «أكثر بليريّة من حكومة بلير نفسه». كما نقلت الصحف عن نائب اسكتلندي في مجلس العموم، قوله إن «هذا التعديل العمّالي هو بليريّة تتعاطى المنشّطات. وبهذا المعدّل، سأكون مندهشاً إذا لم نغزُ العراق مجدّداً».
لكن «الستارميين» في الحزب أبدوا ارتياحهم لِما اعتبروه «طلقة البداية للحملة الطويلة للانتخابات العامة». وبحسب خبراء، فإن ستارمر يسعى، من وراء خطواته، إلى تقديم أوراق اعتماده للدولة العميقة، في وقت يأمل فيه في أن يستغلّ انهيار التأييد الشعبيّ لـ«حزب المحافظين» الحاكم، ليصبح أوّل زعيم «عمالي» يفوز في انتخابات عامّة منذ سقوط حكومة غوردن براون في عام 2010، بعدما خلف الأخير بلير على رأس الحزب والحكومة بعد استقالته في عام 2007.
يتقدّم «العمّال» في استطلاعات الرأي الحالية بنحو 20 نقطة مئوية على «المحافظين» الذي يقوده ريشي سوناك
ويتقدّم «حزب العمّال» في استطلاعات الرأي الحالية بنحو 20 نقطة مئوية على «المحافظين» الذي يقوده رئيس الوزراء، ريشي سوناك، علماً أن هذا التقدّم متأتٍ من أصوات محتجّين على الأداء الفضائحي للحزب الحاكم، وفي ظلّ غياب أيّ بدائل سياسية حقيقية، ما يجعله غير مضمون لحظة فتح صناديق الاقتراع.
على الضفة المقابلة، يبدو مناخ «داونينغ ستريت» انتخابياً بامتياز، حيث يرسم سوناك، من جهته، خطوط المعركة السياسية للانتخابات المقبلة، تحسُّباً لمؤتمر «حزب المحافظين» الشهر المقبل، كما الانتخابات البرلمانية الفرعية لملء مقعد وزيرة الثقافة السابقة، نادين دوريس، في ميد بيدفوردشاير، والذي يعتقد على نطاق واسع أنه لم يَعُد مضموناً لـ«المحافظين». وقبل ذلك، ستكون لسوناك رحلة إلى الهند لحضور اجتماع «مجموعة العشرين» هذا الأسبوع، تُعتبر مهمّة لإقناع الناخب البريطاني بقدرة «المحافظين» على نسج علاقات دولية مؤثّرة لبريطانيا ما بعد الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى خطاب الملك تشارلز الثالث أمام البرلمان في السابع من تشرين الثاني، والذي يُتوقّع أن يكون ذا مضمون سياسي أبعد من البروتوكولات المعهودة.
ويَنظر فريق سوناك إلى مؤتمر «المحافظين» المقبل، والذي سيعقد في مدينة مانشستر، على أنه لحظة شخصية له لـ«إعادة ضبط» الأمور، وطرْح سياسات جديدة للبناء على ما يؤمل أن يكون عودة إلى الانتعاش الاقتصادي في عام 2024. وكانت سلسلة من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة والفضائح الإدارية المتتابعة أفقدت الحزب الحاكم تأييده الشعبي، لتصبح مسألة بقائه في السلطة مرتبطة فقط باستحالة إقالته من الحكومة بسبب الأغلبية البرلمانية الحاسمة التي نالها في انتخابات عام 2019. ويريد سوناك أن يستغلّ الأشهر القليلة المقبلة لمحاولة التخلّص من الإرث المسموم المتراكم لحكومات «المحافظين»، والتأسيس لصورة جديدة أكثر تفاؤلاً. وفي هذا الجانب، يقول مطّلعون على أجواء الحزب، إن سوناك قد يبني على مناخ تحسّن اقتصادي متوقّع في النصف الأول من العام المقبل، ليقدّم موعد الانتخابات ستة أشهر إلى الصيف.
ومع اتّضاح معالم المنافسة الانتخابية بين اليمين الحاكم واليمين المعارض لاستقطاب رضى مراكز النفوذ داخل الدولة العميقة - من دون أيّ اختلافات جوهرية في البرامج -، وفي موازاة تلاشي تأثير اليسار البريطاني على الساحة السياسية إلى درجة الصفر، فإن لعبة الديموقراطية البرلمانية بالنسبة إلى غالبية البريطانيين ستبدو هذه المرّة خاوية، وأقرب إلى لعبة كراسي موسيقية بين أفراد من النخب اليمينية ذاتها، فيما تكاد تنعدم بوادر حدوث تغييرات حقيقية على أوضاعهم في المدى منظور.