في كلّ مرة تُعقد فيها «قمّة العشرين»، منذ تأسيس المجموعة عام 1999، أوّلاً كمنتدى لوزراء المالية على وقع أزمات نقدية في عدد من البلدان المنضوية فيها، قبل أن تُجرى تعديلات تنظيمية عام 2008 عليها، أتاحت انعقاد قمة على مستوى القادة بصورة سنوية مذّاك، وذلك بهدف التداول في المستجدات الاقتصادية وتنسيق سياسات الدول المشاركة لحلّ تلك المشكلات على الصعيد العالمي، تُستعاد التساؤلات نفسها حول جدواها. ويحدث هذا، خصوصاً، ربطاً بالبيانات الختامية الطموحة لاجتماعاتها الدورية، وما يعقبها سريعاً من خيبات على مستوى النتائج، على غرار الخطوات التي وعدت بها الدول المشاركة خلال العامين الماضيين لتخفيض الانبعاثات الكربونية، أو ما أقرّته لناحية فرض ضرائب على المتاجر الإلكترونية العالمية الرائدة كـ«Amazon»، وكلّها إجراءات لم تعرف طريقها إلى التنفيذ.في مطلق الأحوال، يشكّل حدث استضافة «قمّة العشرين» في نيودلهي إنجازاً بحدّ ذاته بالنسبة إلى الهند، الساعية إلى تصدير نسختها الخاصة الجديدة من «عدم الانحياز»، عبر توظيف صراعات القوى الكبرى القريبة والبعيدة، وخصوصاً الولايات المتحدة والصين، وكذلك الحرب الروسية - الأوكرانية، في مساعيها لإعلاء شأن مصالحها القومية، وخصوصاً أنها تعلم أنه لا غنى للغرب عن وزنها الجيوسياسي والاقتصادي في استراتيجيته الرامية إلى مواجهة الصين، من جهة، ومحورية دورها في الرؤى «البديلة» لإقامة نظام عالمي جديد، والتي تطرحها قوى كبرى مناهضة للغرب، على رأسها روسيا، من جهة ثانية. وفي هذا الصدد، تصف وكالة «بلومبيرغ» سياسة الهند الخارجية بـ«ديبلوماسية الانحيازات المتعدّدة»، لافتةً إلى أنها تقوم على رؤية مودي بأن بلاده «تعدّ نقطة ارتكاز بين واشنطن وبكين، وليست مدينة لأيّ منهما، وهي حرّة في متابعة مصالحها الوطنية».
الثابت أن نيودلهي هي حليفة الغرب في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، سواءً من خلال حضورها في «حلف كواد»، أو في مشروع ربط بحري وبري منافس لمشروع «الحزام والطريق» الصيني بالاشتراك مع السعودية (يندرج ضمن عشرات المشاريع الأميركية والأوروبية المخصصة لهذا الغرض)، وأخيراً الإعلان عن «المنتدى الثلاثي الجديد» الذي يضمّها إلى جانب باريس وأبو ظبي. وممّا يجدر التذكير به، هنا، هو أن البيانات الرسمية الخاصة بـ«كواد» نصّت على اعتبار «G20» منصّة مناسبة لتعزيز العمل المشترك بين أطراف الحلف في مسائل مناخية وطاقوية وكذلك سياسية، وهو ما يرفع من حظوظ اشتراكهم سوياً في مبادرات «Mangrove Alliance» في شأن قضايا المناخ، و«Indo-Pacific Parks Partenrship» المتعلّقة بإدارة المحميات الطبيعية، الأمر الذي سيعني بالنتيجة مراعاة الموقف الهندي خلال القمة المرتقبة، أقلّه في ما يخص بعض القضايا، الهواجس الغربية.
هنا، يصحّ القول إن المصالح الهندية - الأميركية ربّما تتقاطع بشكل أو بآخر، في عدد من الملفات، في طليعتها الموقف من الصين، وهذا ما تدركه وتثمّنه عالياً حكومة مودي، بدليل عدم ممانعتها الاضطلاع بدور «صندوق رسائل امتعاض» أميركية موجّهة إلى الجانب الباكستاني في مرحلة من المراحل، وخصوصاً مع استعادة مناخات التوتر على مستوى العلاقات الباكستانية - الأميركية، عقب انسحاب قوات التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة من أفغانستان، وتسارع وتيرة التقارب الباكستاني - الصيني في المقابل. لا بل إن الهند سبق أن طالبت، خلال «قمة بنغالور»، بمعالجة أزمة المديونية المرتفعة لبلدان العالم النامي، وهو أمر يبدو الغربيون أكثر ميلاً إلى تبنّيه، مع محاولتهم رمي الكرة في ملعب الصين، مشترطين التزامها أيضاً بتخفيض ديونها للعديد من البلدان «الأكثر فقراً»، بالنظر إلى أن بكين تعدّ أحد أكبر الدائنين على مستوى العالم، وهو مطلب ترفضه الأخيرة، متمسّكة بضرورة أن تشمل جدولة ديون البلدان الفقيرة، تلك التي تعود إلى مانحين دوليين آخرين متعدّدي الأطراف، في طليعتهم «البنك الدولي».
يقاطع الرئيسان الروسي والصيني القمة التي تظلّلها الخلافات


وفي الاتجاه نفسه، جاءت زيارة نائبة وزير الخارجية الأوكراني، أمينة جباروفا، إلى نيودلهي في نيسان الماضي، كأول زيارة لمسؤول أوكراني للهند منذ اندلاع الحرب، لتعرب عن انفتاح بلادها على أيّ جهود وساطة هندية لوقف الحرب، وهو ما عدّه محلّلون بمثابة «نعي» لمحاولة الصين تقديم نفسها كوسيط لوقف الحرب، لصالح رفع «الرصيد الحيادي» للهند على هذا الصعيد، من جانب كييف وحلفائها الغربيين. وترافقت تلك الخطوة مع تسريبات كشفت عنها صحف غربية، مفادها وجود توجّه لدى كلّ من لندن وباريس لحثّ نيودلهي على استخدام نفوذها لدى موسكو، لمحاولة عرض وساطتها لوقف الحرب الأوكرانية، وإظهار المزيد من الدعم لكييف.
في المقابل، وعلى الرغم ممّا سبق، لم تحِد الهند عن نهجها التقليدي في «الحياد»، وخصوصاً حيال أزمة أوكرانيا، حيث تجنّبت التنديد بتدخّل روسيا العسكري هناك، وهو موقف لاقت فيه موقف «جارتها اللدودة» الصين، مع إبقائها على تعاملاتها التجارية، بخاصة النفطية، مع روسيا. وكما تبدّى خلال فترة رئاستها الحالية للمجموعة خلال العام الجاري، لا تزال نيودلهي، وعلى رغم المغريات الأميركية المصحوبة بضغوط من العواصم الغربية راهنت على تأثّر الهنود بتعطّل سلاسل التوريد وارتفاع أسعار الغذاء، على رفضها القاطع مناقشة فرض عقوبات على روسيا خلال القمّة، أو تضمين بيانها الختامي توصيف ما يجري في أوكرانيا على أنه «عدوان». وهي كانت اكتفت، في «قمّة بنغالور»، بإصدار وثيقة «ملخص القمة»، والتي أشارت فيها إلى أن «معظم الأعضاء دانوا بشدة الحرب في أوكرانيا»، وبصورة خاصة بلدان «مجموعة السبع»، وسط معارضة صينية - روسية لمضمون الوثيقة في هذا الخصوص، بدعوى مخالفته الطبيعة الاقتصادية والمالية لفعاليات «G20».
ملفّ آخر، تجد نيودلهي نفسها فيه معنيّة بملاقاة بكين، وهو ذلك المتعلّق بإصلاح النظام المالي العالمي، الأمر الذي عبّر عنه مودي في كلمته الافتتاحية في «قمّة بنغالور»، حين أشار صراحة إلى ما سمّاه «انعدام الثقة بالمؤسّسات المالية الدولية»، في إشارة إلى «صندوق النقد والبنك الدوليين». والواقع أن إلحاح الهند هذا، أثمر جزئياً، وإن في الشكل على حساب المضمون، مع تعيين رئيس مجلس إدارة شركة «ماستر كارد» ذي الأصول الهندية، أجاي بانغا، رئيساً لـ«البنك الدولي»، بعد احتكار المنصب من جانب شخصيات أميركية في معظم الأحيان، كتكريس لعرف غير مكتوب، تمّ كسره غير مرّة في الأعوام الأخيرة.
وبخصوص الرهانات الأميركية على قمّة «G20»، فقد سبق أن أعرب وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، عن تطلّع بلاده إلى تكرار ما جرى في قمّة بالي الأندونيسية العام الماضي، لناحية الدعوات التي وجّهها قادة دوليون إلى روسيا لسحب قواتها من أوكرانيا، وهو ما تعكف الهند على تفاديه، والتركيز بدلاً منه على الهموم الاقتصادية، كملفّ الأمن الغذائي العالمي. وفي المقابل، تأكّد عدم حضور الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، القمة، في ما يربطه بعضهم بامتعاض موسكو من «الحلفاء القدامى» في نيودلهي، من منطلق التقارب الهندي - الأميركي المتسارع، فيما يعتقد آخرون أن موقف بوتين ينمّ عن رغبته في توجيه رسالة احتجاج ضدّ المساعي الأميركية لـ«احتلال G20»، وتسيير نشاطاتها وفق مقتضيات مصالحها الخاصة، مستدلّين على ذلك بحضور بوتين شخصياً قمّة «منظمة شنغهاي» في الهند في تموز الفائت. أيضاً، أكدت الصين أن الرئيس شي جين بينغ لن يحضر بدوره قمة الهند، وهو قرار رجّح مراقبون أن يكون على خلفية تجدّد الخلاف الحدودي بين الجارين، بعد نشر وسائل إعلام صينية، أخيراً، خريطة تُظهر مناطق متنازع عليها مع الهند ضمن حدود الجمهورية الشيوعية.