في المقابل، لا يمكن أيضاً إلّا وضع ذلك المشروع في سياق التنافس بين أقطاب العالم، الذين يسعى كلّ منهم إلى اجتذاب أكبر عدد من الدول الأخرى إلى صفّه، في محاولة لتعزيز جبهته في هذا الصراع. لذا، لم يكن صدفة غياب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عن قمّة نيودلهي؛ ففي رأس الأخير خريطة مستقبلية مختلفة للعالم، وإن كانت تشمل بعض الدول الموقّعة على الممرّ الاقتصادي الجديد، كالسعودية والهند وغيرهما. كما لا يمكن، في قراءة ما جرى في نيودلهي، إلّا المقارنة مع مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقها شي جين بينغ قبل سنوات، مع ملاحظة أن نطاق المبادرة الصينية أوسع بكثير، والاستثمارات التي تمّ ضخها بالفعل فيها، أضخم بما لا يقاس من تلك التي ستُستثمر في المشروع الجديد، والتي تشمل، على سبيل المثال لا الحصر، 20 مليار دولار من السعودية، وهو مبلغ متواضع لهذا النوع من المبادرات.
لم يكن صدفة غياب الرئيس الصيني عن قمّة نيودلهي، ففي رأسه خريطة مستقبلية مختلفة للعالم
وعليه، لا يمثّل التوقيع السعودي تغييراً جوهرياً في سياسة ابن سلمان، بمعنى عودة إلى الحظيرة الأميركية؛ فما زال الرجل يرفض رفع مستوى إنتاج النفط، ويُجري تمديد التخفيضات الكبرى التي بادر إليها من جانب واحد، شهراً بعد آخر، وكذلك تلك التي قام بها بالاتفاق مع روسيا ضمن منظّمة «أوبك بلس»؛ كما ما زالت العلاقات مع إيران تمضي في المسار الإيجابي الناتج من «اتفاق بكين»، حتى وإن ظلّت الولايات المتحدة تمانع تحقيق تقدّم في حلّ الملفات الكثيرة التي يمكن للبلدين المساعدة في حلّها إن تُركا وشأنهما؛ والأهمّ أن ابن سلمان ما زال يرفض الانتقال إلى جهة التحالف مع إسرائيل. لكن ثمّة أسباب أخرى تفسّر حماسة ولي العهد الظاهرة للمشروع، أهمّها أن إمكانات السعودية الاقتصادية الهائلة، ولا سيما في ظلّ استمرار ارتفاع أسعار النفط، تؤهّلها للقيام بدور مؤثّر على المسرح العالمي، بما يقوّي النظام ضدّ خصومه الداخليين والخارجيين؛ وأن «مجموعة العشرين» التي عادةً ما تحظى بتغطية واسعة في الإعلام السعودي، شكّلت المنتدى الذي سعى ولي العهد إلى الخروج من عزلته عبره، بعد أن ضيّق عليه الأميركيون بموجب سياسة بايدن التي كانت في الأساس تهدف إلى نبذه، قبل أن تتغيّر هي الأخرى بسبب الظروف، على رغم أن أهمية المجموعة تتراجع إذا ما قيست بمنتديات أخرى مثل «مجموعة السبع».
وضع فلسطين المحتلّة على مسار الممر، هو إجراء متعمّد من الدول الموقّعة، عربية كانت أم غربية، لحذف دور لبنان الذي تغنّى طويلاً بكونه صلة الوصل بين أوروبا والخليج، وأيضاً لاستثناء العراق وسوريا اللذين يمكن لهما أن يكونا جزءاً من طريق طبيعي يصل الخليج بأوروبا، عبر تركيا. وهذا، على كلّ حال، وارد في مشروع «طريق التنمية» العراقي الذي ينطلق من شطّ العرب في جنوب العراق، إلى الحدود العراقية - التركية، ومن ثمّ إلى أوروبا، ويمكن أن يُستخدم أيضاً لنقل إمدادات الطاقة ذهاباً وإياباً بين المنطقة وبين أوروبا. وعلى رغم تزايد الإعلان عن الممرّات والطرق الدولية، في إطار الصراع على النفوذ الذي يشتدّ في العالم، إلّا أن هذه السياسة تبقى امتيازاً للصين التي يمكّنها موقعها الطبيعي من الاستفادة منها، كما فعلت منذ القدم على «طريق الحرير»، الذي يُفترض أن تَخلفه وتوسّعه مبادرة «الحزام والطريق». وذلك ما يفعله الصينيون للوصول إلى المناطق والشعوب حول العالم من خلال المشاريع العملاقة، بدلاً من الحروب والعدوان والحصار وتدمير البلدان. هو، إذاً، صراع طويل بين الشرق والغرب نهايته أن يتفوّق اقتصاد على آخر، وثقافة على أخرى، ونمط حياة على آخر.
في العصر الأميركي، استُخدمت الطرق والممرّات في الحروب ونهب الثروات واحتلال الأرض. وهذا الممرّ الجديد، يُراد له أميركياً أن يثبّت الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ويدمج إسرائيل في المنطقة ولو تدريجياً. لكن العالم لم يَعُد في ذلك العصر، والصراعات الكبرى حالياً لا تحسمها الطرق والممرات، بل من سيفوز في تلك الصراعات التي تسبّبت بها المحاولات الأميركية المستمرّة لتأبيد الهيمنة على العالم، كما يجري حالياً في أوكرانيا، حيث يحاذر أقرب حلفاء أميركا، الركون إلى قدرتها على تحقيق انتصار. وإلّا، فلماذا نأت السعودية بنفسها عن الولايات المتحدة في هذه الحرب؟ ولماذا لا تجرؤ إسرائيل على الاصطفاف علانية إلى جانب أوكرانيا، وفق الرغبة الأميركية؟