عشية انتهاء موعد «تيفن 2008 - 2012»، عمد رئيس أركان الجيش اللاحق، بني غانتس، إلى بلورة خطة بديلة، أطلق عليها اسم «حلميش». لكن اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل في تلك الفترة، على خلفيات اقتصادية، فرض على القيادتين السياسية والأمنية تجميد الخطة. جرى ذلك بالتزامن مع تصاعد الأحداث في العالم العربي وسقوط النظام المصري واحتدام الحرب السورية، وتصدّر البرنامج النووي الإيراني المشهد الإقليمي في وقت كانت تلوّح فيه إسرائيل باستهدافه. وكما هو حال «حلميش»، انتهى أمر خطّة «عوز» البديلة إلى التجميد. بعد مضيّ نحو ثلاث سنوات، بقي خلالها الجيش من دون خطّة خمسية، بادر رئيس الأركان، غادي آيزنكوت، إلى بلورة واحدة جديدة حملت اسم «غدعون 2015 - 2019»، وذلك في ضوء التحوّلات الجذرية التي استجدّت في البيئة الإقليمية، وأبرزها التراجع في خطورة التهديد «الدولتي» (بعد أحداث العراق وسوريا)، في مقابل تنامي منظمات «لادولتية» تشكّل تهديداً متصاعداً وتحمل ميزات جديدة، في ما مثّل أبرزَ وجوهه استمرار تعاظم «حزب الله» على الجبهة الشمالية، وتصاعد التهديدات الناجمة عن الصواريخ متوسّطة وبعيدة المدى، والأسلحة تحت الأرضية (الأنفاق). أيضاً، شكّل المتغيّر الأهمّ الذي رافق الإعلان عن «غدعون»، توقيع الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، الأمر الذي أفسح المجال للجيش لتحويل قسم مهمّ من ميزانية التصدّي للبرنامج النووي الإيراني، لصالح مواجهة التهديدات المتصاعدة في محيط إسرائيل المباشر. ومع هذا، فقد حضر الحدث الاجتماعي - الاقتصادي، في حينه، كعامل مُصمِّم لخطّة الجيش، إلى جانب مطلب الحفاظ على مستوى عالٍ من الكفاءة العملياتية.
لكن تقويم نتائج «غدعون» لا يستقيم من دون النظر إلى خطّة رئيس الأركان اللاحق، أفيف كوخافي، التي سمّيت «تنوفا/ الزخم 2019 - 2023»، والتي كان عليها مواءمة المستجدّات في البيئتَين الاستراتيجية والعملياتية لإسرائيل، وعلى رأسها خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، وبدء إيران التخفّف من القيود التي يفرضها الاتفاق، وعودة التهديد النووي إلى التصاعد، وتكرّس فشل مساعي إسقاط النظام السوري، وما تبلور، في ضوء ذلك، من خطر جديد أطلقت عليه إسرائيل عنوان «تمركز إيران وحلفائها في سوريا»، وعدّته تهديداً داهماً ينبغي عدم السماح له بالتطوّر. اللافت أن كوخافي، وفي أوّل جلسة له مع هيئة أركان الجيش في شباط 2019، أشار، في خلاصة تُجلّي ما آلت إليه «غدعون» وغيرها من الخطط، إلى أن الرسم البياني يؤشّر إلى تقلّص الهوّة النوعية بين الجيش الإسرائيلي و«حزب الله» و«حماس»، مشدداً على ضرورة أن يبادر الأول إلى خطوات عملية من أجل إعادة توسيع الهوة قبل فوات الأوان. ومن هنا، دعا إلى تغيير بنية الجيش ورؤيته القتالية، في مواجهة «الحروب اللاتماثلية» مع المنظمات المذكورة، محاولاً تعويض تعذّر الحسم العسكري باستراتيجية «جيش أكثر تطوّراً وأشدّ فتكاً»، خاصة أن القدرات الصاروخية لقوى المقاومة، وتحديداً «حزب الله»، نجحت في إدخال مفهوم تأسيسي في وعي صنّاع القرار السياسي والأمني، عنوانه أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية ستكون ساحة حرب حقيقية، وهو ما أدّى إلى تعزيز قدرة الردع الاستراتيجي لمحور المقاومة، بالتزامن مع استمرار تطوّر إيران النووي، وفشل الولايات المتحدة وإسرائيل في كبح هذا المسار التصاعدي.
يبدو أن ثمّة شبه إجماع في الكيان على أن مستوىً معيّناً من الضرر لحق بتماسك المؤسسة العسكرية
هدفت الخطة إذاً، بحسب ما أدلى به كوخافي نفسه أمام وزير الأمن، إلى تعزيز القدرة على تدمير أهداف العدو، عبر تحسين القوة الفتاكة للجيش، سواءً في الحجم أو الدقة، وخلق ظروف لتقصير مدة المعركة، وخصوصاً أن «التحدّيات من حولنا لا تعطينا الإمكانية للانتظار». وبالتفصيل، أريدَ من رؤية كوخافي، إذا ما وُضعت على سكّة التنفيذ، أن تؤدّي إلى تدمير كلّي لمراكز القوة الأساسية الثلاثة لدى «حزب الله» و«حماس»، وهي: القدرات الصاروخية، مراكز القيادة والسيطرة، و«كتائب الرضوان» بالنسبة إلى الأول ووحدات «الكوماندوس» بالنسبة إلى الثانية. إلّا أن الاختبار العملي لهذه الخطّة، والذي تَمثّل في معركة «حارس الأسوار/ سيف القدس»، أظهر فشل الكمين الاستراتيجي الذي أعدّه جيش العدو لتدمير القوة الخاصة لـ«حماس» عبر ضرب أنفاقها، وهو ما أصاب العمود الفقري لـ«تنوفا» في مقتل. أمّا في مواجهة «حزب الله»، فقد ارتدع الجيش عن خوض معركة عسكرية خلال «الاشتباك البحري» الذي أدّى في نهاية المطاف إلى خضوع القيادة الإسرائيلية، بشقَّيها الأمني والسياسي، لمطالب الدولة اللبنانية، في ما يمثّل مؤشّراً بذاته إلى إدراك العدو عدم جهوزيّة جيشه لخوض مواجهة عسكرية يحقّق فيها النصر مع «حزب الله»، بعد كلّ السنوات والخطط التي تلت حرب عام 2006. مع ذلك، تَجدر الإشارة، هنا، إلى أن دوامة الشلل الحكومي والانتخابات المفتوحة التي قبعت فيها إسرائيل منذ عام 2019، أي السنة التي كان يُفترض أن تشكّل نقطة البداية لـ«تنوفا»، شكّلت عقبة جدّية حالت دون تحقيق الطموحات التي كان يعقدها كوخافي.
عشية انتهاء موعد «تنوفا»، عُيّن هرتسي هليفي رئيساً لأركان الجيش، مطلع العام الجاري، حيث بادر، هو الآخر، إلى بلورة خطّة جديدة لسنوات متعدّدة، حملت اسم «معالوت/ ارتقاء». وقد وجد هليفي نفسه، لدى صياغة الخطّة التي كان يُفترض أن تمثّل ارتقاءً إضافياً استناداً إلى ما تَحقّق من خطط سابقة، أمام تحوّلات جديدة في البيئتَين الاستراتيجية والعملياتية أدّت إلى اهتزاز أغلب أعمدة المكانة الاستراتيجية لإسرائيل، وهو ما فرض عليه وسائر قادة الجيش أن يأخذوه في الحسبان. لكن المتغيّر الذي لا يقلّ خطورة عن تلك التحوّلات، والذي ألقى بظلاله على مؤسّسات الكيان كافة، بما فيها الجيش، هو انفجار الأزمة الداخلية التي عزّزت من حالة تآكل قوة الردع، وفاقمت التفكّك المجتمعي. ونتيجة ذلك، رفعت القيادات العسكرية الصوت، مُحذّرةً من تداعيات الانقسام داخل الجيش حول خطّة إضعاف القضاء، بفعل عزوف العديد من ضباط وعناصر قوات الاحتياط عن التطوّع في الخدمة العسكرية، فيما حدّد هليفي ثلاثة عوامل للخطر: «فقدان التوازن بين السلطات وتنامي الخطاب حول الديكتاتورية»، «فقدان استقلالية النظام القضائي ما قد يُعرّض الضباط لملاحقة قضائية دولية»، و«انتهاك مبدأ المساواة في توزيع الأعباء، على خلفية المساعي لسنّ قانون التجنيد الجديد». وعليه، حذّر رئيس الأركان من أن المضيّ في تعزيز تلك العوامل سيؤدّي، بالضرورة، إلى تعميق حالة عدم امتثال عناصر الاحتياط لأوامر الاستدعاء العسكرية، وانعدام ثقتهم بالقيادة السياسية، وبالتالي تقويض نموذج «جيش الشعب»، وضرب قدرات سلاح الاحتياط الذي يمثّل العمود الفقري لقوة الجيش.
على أيّ حال، وفيما لا تزال الأزمة مفتوحة على أكثر من سيناريو، يبدو أن ثمّة شبه إجماع في الكيان على أن مستوىً معيّناً من الضرر لحق بتماسك المؤسسة العسكرية، وبدأ يتطوّر إلى التأثير على كفاءتها العملياتية، فيما الخوف حالياً من أن يستمرّ هذا المسار إلى حدّ تهديد الجيش بشكل جدّي. وعلى المستوى الخارجي، تجد إسرائيل نفسها أمام جملة تحدّيات، على رأسها أن استراتيجيتها والولايات المتحدة، قد فشلت في منع إيران من التحوّل إلى دولة عتبة نووية. إذ يشير آخر تقرير لـ«الوكالة الدولية للطاقة الذرية» إلى أن إيران جمعت مادة كافية لإنتاج ستّ قنابل نووية خلال شهر، و10 قنابل خلال أربعة أشهر، فيما يفيد التقدير الاستخباري الإسرائيلي السنوي بأن البرنامج النووي الإيراني أصبح أكثر صلابة، كونه صار أكثر تطوّراً، وذا عدد أكبر من المنشآت وأجهزة الطرد المركزي، وهو ما يُضاف إلى التطوّر النوعي في قدرات طهران الهجومية والدفاعية، وصولاً إلى صناعتها صواريخ فرط صوتية. وإلى جانب ما تَقدّم، يأتي تعاظم إمكانات «حزب الله» وسائر محور المقاومة، الذي أصبح، بحسب تعبير رئيس وحدة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية، العميد عميت ساعر، «يملك قدرات كانت إلى ما قبل عدّة سنوات حكراً على الدول العظمى، من مثل المسيّرات المتطورة التي تقطع مئات الكيلومترات وتصيب أهدافاً نقطويّة، وتُحوّل المنظّمات المعادية لإسرائيل، وتحديداً حزب الله، إلى جيوش غير نظامية». كذلك، يَبرز تحوّل الضفة إلى تحدٍّ جدّي بفعل مجموعة من العوامل، من ضمنها انسداد أفق التسوية، وبروز جيل جديد يؤمن بخيار الكفاح المسلّح، وضعف السلطة الفلسطينية، وتدفّق السلاح بمستويات بات العدو يرى أنها تشكّل خطراً حقيقياً، وخصوصاً مع ما يوازيها من فشل في منع العمليات الفدائية التي سجّلت الخسائر البشرية الإسرائيلية الناجمة عنها، الذروة منذ الانتفاضة الثانية.
في الخلاصة، تكشف المقارنة بين ما كان عليه أعداء إسرائيل لدى إقرار أوّل خطّة متعدّدة السنوات (تيفن)، وما هم عليه الآن على المستويات كافة، حقيقة الفشل الإسرائيلي في إنجاز الأهداف الموضوعة، كما ومحدودية قدرة العدو على التأثير الجوهري على الاتجاه العام للبيئتَين الاستراتيجية والعمليّاتية.