يؤمنون بالكفاح المسلّح كسبيل وحيد للتحرّر من «المحتلّين» «في الداخل أو في الخارج»؛ يعيش مقاتلوهم في الغابات حياةً لا يتخيّلها من يقطنون «العالم الخارجي»؛ ويكرّمون «شهداءهم» عاماً بعد عام في تظاهرات ومسيرات تحمل شعارات مناهضة للإمبريالية والشركات الأجنبية التي «تستبيح» أراضيهم. وبالرغم من أنهم يعدّون من الأقلّيات، إلّا أنهم تمكّنوا من السيطرة على مناطق واسعة من الهند، وصنّفتهم الحكومات المتعاقبة هناك على أنهم «أكبر خطر على الأمن الداخلي». هؤلاء هم «النيكساليون»، أو بتعبير آخر، أعضاء فصائل الأحزاب الشيوعية «والماوية» في الهند.قبل أن تنسحب التسمية على جميع أعضاء تلك الفصائل، كانت «ناكساليت» قد اشتُقّت ابتداءً من بلدة ناكسالباري، الواقعة في أقصى شمال ولاية بنغال الغربية في شمال شرق الهند، والتي كانت معقل انتفاضة الفلّاحين القبَليين ضدّ الملّاك المحليين في عام 1967. كما تزامن صعود «الناكسالية» مع اكتساب الشيوعية زخماً في الهند، حيث تأثّرت بالتجربة السوفياتية ووصول ماو تسي تونغ إلى السلطة في الصين، في أربعينيات القرن الماضي. وفي تلك الفترة أيضاً، أُنشئ «الحزب الشيوعي الهندي الماركسي - اللينيني» (CPI-ML) في عام 1969، فيما ظهرت مجموعات متمرّدة أخرى، على غرار «المركز الشيوعي الماوي» (MCC) ومجموعة «حرب الشعوب». إلّا أنه بمعزل عن الأثر التي تركته تجارب البلدان الأخرى على الشعوب المحلّية، فإن للقبائل المتواجدة في وسط الهند تاريخاً حافلاً من المقاومة، يسبق ماو بقرون، ولا سيما أن التمرّد كان قدراً «لا مفرّ منه» للحفاظ على وجودهم، على غرار مقاومة شعوب «غوندي» و«موندا»، وقبيلة «سنتال»، وغيرها، لملّاك الأراضي البريطانيين، ومقرضي الأموال. وفي كلّ مرّة، كان يتمّ قمع حالات التمرّد هذه بقسوة، وقَتل آلاف الأشخاص، إنّما من دون النجاح في القضاء على الشعوب هناك.
و«النكسالية» هي امتدادٌ أيضاً لحركة «تبهاغا» - معناها الحرفي «ثلاث حصص من الأرض» -، التي يصفها المؤرّخون بأنها الانتفاضة المسلّحة «الأكثر دموية» في تاريخ الهند، والتي قام بها المزارعون بين عامَي 1946 و1947، بعدما نشأت في شرق بنغال طبقة جديدة من الفلّاحين الأثرياء تُعرف باسم «Jotedars»، بسطت يدها على مساحات شاسعة من الأراضي في المناطق الريفية. واستهدفت هَبّة المزارعين تلك، «نظام المزارع» الذي كان قائماً خلال ما يُعرف بـ«حكم الشركة في الهند»، أي الحقبة التي حكمت خلالها «شركة الهند الشرقية البريطانية» أجزاءً من شبه القارة الهندية، حيث كان المزارعون، المعروفون باسم «Bhagadars»، يعملون آنذاك في الأراضي الزراعية الشاسعة الخاضعة لسيطرة الـ«Jotedars»، ويتنازلون للأخيرين عمّا قيمته نصف المحاصيل التي يجنونها، الأمر الذي حمل دُعاة التمرّد على المطالبة بخفض هذه الحصّة إلى الثلث فقط.
بالعودة إلى «الناكساليين»، فقد أصبحت هذه المجموعات تسيطر، في ما بعد، على مناطق كبيرة في العديد من ولايات شرق الهند، على غرار بيهار وجارخاند وبنغال الغربية وأوديشا وأندرا براديش ومهاراشترا، وغالباً ما كانت تتولّى الحكم في المناطق التي تسقط بيدها، والتي تُعرف باسم «الممرّ الأحمر». وفي عام 2010، قدّرت الحكومة الهندية عدد المتمرّدين بنحو 20 ألف مقاتل، مشيرةً إلى أن «الماويين» أحرزوا تقدّماً في ما يقرب من «ثلث مقاطعات البلاد» البالغ عددها 630.

في حضرة «الماويين»
في تقرير من جزأين نشرته صحيفة «ذا غارديان» البريطانية، عام 2010، تستعرض الكاتبة الهندية والناشطة السياسية، أرونداتي روي، زيارتها إلى غابة «Dandakaranya»، أحد المعاقل الأساسية للمجموعات «الماوية»، وتصف الواقع على الأرض كالتالي: «الخصوم المتقاتلون في الغابة غير متكافئين من جميع النواحي تقريباً؛ إذ هناك قوة شبه عسكرية ضخمة مسلّحة بالمال والقوة النارية ودعم وسائل الإعلام وغطرسة قوة عظمى ناشئة، وفي مواجهتها، مجموعة من القرويين العاديين المسلّحين بأسلحة تقليدية، والمدعومين بقوة مقاتلة ماوية منظّمة بشكل رائع، ولديها تاريخ غير اعتيادي وعنيف من التمرّد المسلّح»، مشيرةً إلى أنّه منذ الستينيات، يتحارب «الماويون» والمقاتلون شبه العسكريون في معارك دامية، حتى باتوا يحفظون تكتيكات بعضهم جيداً. وتُتابع أنّه في كلّ مرّة، كان الأمر يبدو كما لو أنّه تمّت «إبادة الماويين» جسدياً ومعنوياً، قبل أن يعودوا «إلى الظهور، وهم أكثر تنظيماً وتصميماً وتأثيراً من أيّ وقت مضى». وخلال فترة مكوثها في «Dandakaranya»، أمضت الكاتبة وقتاً بين المقاتلين، وتقرّبت من المقاتلات - وعددهنّ ليس بقليل أبداً -، وشاركتهم مخاوفهم وأحزانهم، في كلّ مرّة كانت تصل إليهم فيها أنباء عن سقوط رفاق لهم قتلى. وتتساءل روي، في ختام تقريرها، عمّا إذا كان مصير جميع أولئك النساء والأطفال سيكون «القتل»، لمجرّد تحويل أراضيهم، في نهاية المطاف، إلى مراكز «تعدين» للثروات المحلية.
لا يزال العديد من المراقبين يحذرون من أنه من المبكر جداً إعلان «الانتصار» على التمرّد «الماوي»


ويبقى اللافت، أنه وعلى الرغم من «الشيطنة» المستمرّة لعناصر هذه الجماعات، إلّا أن العمليات العسكرية التي تشنّها الحكومة ضدّهم لا تلقى دعماً كبيراً، لأن الكثيرين يجدون في حركات التمرّد تلك «ردّة فعل طبيعية» على الظروف التي تُركت القبائل لتواجهها بمفردها، وسط غياب تامّ للحكومة ووكالاتها. وما يدّل على حالة فقدان الدعم المُشار إليها، «عملية الصيد الأخضر» التي كانت الحكومة الهندية تُحضّر لها في فترة وجود أرونداتي روي في الغابة، والتي هدفت إلى قمع الفصائل المتمرّدة؛ إذ بدا، بحسب روي، أن الحكومة «تفتخر بهذه الحملة وتخجل منها في الوقت عينه»، وهي أعلنتها ونفتها «في آنٍ معاً»، فيما وصفها وزير الداخلية الهندي والمسؤول عن العملية آنذاك بأنها «من صنع الإعلام». إلّا أن كاتبة التقرير تشير إلى أنه، آنذاك، كان قد تمّ بالفعل «تخصيص أموال كبيرة للعملية، وحشد عشرات الآلاف من القوات تمهيداً لها».
وفي عام 2013، استعرض فيلم وثائقي حمل عنوان «أحلام النمل الأحمر» - إذ يَظهر فيه بعض المقاتلين وهم يطهون النمل الأحمر مع طعامهم -، من إخراج سانغاي كاك، حياة المقاتلين «الناكساليين» في باستار وتشاتيسجاره، حيث قاتلت القبائل ضدّ السلطات التي حاولت سلبها أراضيها لصالح الشركات الكبرى. وتستعرض بعض المشاهد التظاهرات السنوية التي كان يَخرج فيها السكان في ذكرى وفاة الثائر اليساري، بهجت سينغ (في 23 آذار 1931)، الذي أُعدم بتهمة قتل ضابط بريطاني، انتقاماً لمقتل الكاتب والسياسي، لالا لاجبات راي. والأخير كان قد توفي، بدوره، جرّاء إصابته على أيدي الشرطة البريطانية، خلال تظاهرة مناهضة لـ«لجنة سيمون» البريطانية. وفي اليوم نفسه من عام 1988، قُتل الشاعر والناشط اليساري الهندي، أفتار سينغ ساندو، المعروف باسم «باش» - والذي يتمّ تداول قصائده وأشهرها بعنوان «لا شيء أخطر من موت أحلامنا» -، في الشارع الهندي، على يد متطرّفين محلّيين بسبب معارضته حَراك «خالصتان» السيخي. وبعد مضيّ عقود، لا تزال الفصائل «الماوية» تنظّم مسيرات تحمل صور باش وسينغ، وتعقد لقاءات في ذكراهما، تتخلّلها أغانٍ هندية ثورية، ومشاهد تمثيلية حول مواجهة المستعمرين البريطانيين، وخطابات «تحريضية» على السلطة والشركات الأجنبية، ومشاريعها لبناء الجسور والطرقات «على حساب الفقراء».

بين الأمس واليوم
خلال فترة حكمه، وصف رئيس الوزراء الهندي الأسبق، مانموهان سينغ، «الماويين» بأكبر تحدٍّ للأمن القومي. وبعد مضيّ أكثر من عقد على هذا التوصيف، لا تزال الاشتباكات بينهم وبين قوات الأمن الهندية مستمرّة، وإنْ بوتيرة أقل. وبحسب الأرقام الرسمية الهندية، فإن «الماويين» استهدفوا 251 مركز شرطة، في 60 منطقة من ثماني ولايات، في عام 2018، مقارنة بـ330 مركزاً في 76 منطقة من 10 ولايات في عام 2013، فيما اقتصرت الهجمات، في النصف الأول من عام 2020، على 46 منطقة. كما كان عدد حوادث العنف (670) ووفيات أفراد الأمن، الأدنى في عام 2019. إلّا أنه، وعلى الرغم من ذلك، لا يزال العديد من المراقبين يحذرون من أنه من المبكر جداً إعلان «الانتصار» على التمرّد «الماوي»، أو الاستخفاف بقدرته على شنّ هجمات كبيرة، بعد فترة «الركود» التي عرفتها هذه المجموعات خلال السنوات الماضية. كما يؤكد العديد من المراقبين أن الحلّ لن يكون بتحقيق «انتصار عسكري»، طالما أنه لا تتمّ معالجة الظروف التي أجبرت المتمرّدين على حمل السلاح، والدفاع عن أراضيهم، التي ظلّت دائماً بمثابة «حلم» للشركات الكبرى.



الجبل «أهمّ من الشركة»
منذ عام 2005، وقّعت حكومات محلية، في تشهاتيسجاره وجارخاند وأوريسا وغرب بنغال، مئات من مذكّرات التفاهم «السرّية»، بقيمة مليارات الدولارات، مع شركات لبناء مصانع الصلب والحديد الإسفنجي ومحطّات الطاقة ومصافي الألومنيوم والسدود والمناجم، وهو ما اقتضى تهجير السكّان المحليين، وبطبيعة الحال، إلحاق أضرار كبيرة بالبيئة. وعلى طريق التصدّي لذلك المشروع، نشطت حركة تمرّدية في جبل نيامغيري في ولاية أوريسا في الهند، قادها السكّان الذين تربطهم علاقة فطرية بالأرض والزراعة التي تشكّل مصدر غذائهم، وجزءاً لا يتجزأ من ثقافتهم، بدعم من المجموعات «الماوية» المسلّحة. وعندما بدأت شركة تعدين الألمنيوم العملاقة «فيدانتا ليميتيد» (Vedanta Aluminum Limited) المتعدّدة الجنسيات، والتي تمتلك 40% من حصة إنتاج الألمنيوم في الهند، أعمالها في الجبل، قاوم السكّان هناك المشروع، مؤكدين أنه «إذا ذهبت نيامغيري، ذهب المطر»، وأن «الجبل أهمّ من الشركة»، فيما تعهّد آخرون بـ«الاتحاد» للتخلّص من أصحاب المشروع. آنذاك، اتُّهم العديد منهم من قِبل الحكومة بالتحوّل إلى «قادة ماويين». لكن في عام 2010، آتى الحَراك ثماره، إذ أوقفت الحكومة الهندية العمل في المنجم، في خطوة وصفتها وسائل إعلام بأنها تهدف إلى استرضاء السكّان المحليين، «ومغازلة المسلّحين الماويين»، الذين دعتهم نيودلهي إلى التفاوض، بعد شنّهم «هجمات دامية» على قوى الأمن في الأشهر السابقة.