«ويكون لكم فريضة دهريّة - أنّكم في الشهر السابع في عاشر الشهر، تذلّلون نفوسكم وكل عمل لا تعملون (...) لأنه في هذا اليوم يُكفَّر عنكم لتطهيركم من جميع خطاياكم - أمام الربّ تطهرون. سبت عطلة هو لكم وتذلّلون نفوسكم - فريضة دهريّة (...) للتكفير عن بني إسرائيل من جميع خطاياهم مرّة في السنة، ففعل كما أمر الربُّ موسى».
(التوراة، سفر «ويقرأ»
الإصحاح 19/ أو اللاوين)


هكذا أمرَ يهوه (أقوى آلهة اليهود)، أتباعه بالتطهّر مرة كل عام من ذنوبهم، بعدما عبدوا «العجل الذهبي» في صحراء سيناء، حتى يغفر لهم، ويبدأوا بعدها حياة روحانية من الصفر. لكن يهوه نفسه، احتار أمام «شعب إسرائيل»، الذي يفاجئه كل مرّة بخطايا جديدة، وهذه المرّة ارتُكبت الخطيئة في أقدس أيام العام بالنسبة إلى اليهود: «سبت الأسبات» و«يوم هكيبوريم» (الغفران)؛ حيث شهد شارع ديزنغوف في تل أبيب، مستوىً متقدّماً من انعكاسات «حرب الأشقّاء»، تمثّل بهجوم العلمانيين على المتديّنين، الذين كانوا يقيمون صلاة «يوم الغفران» في الشارع، فاصلين بين الجنسين، خلافاً للقانون. وفي خضمّ الصراع على «هوية» إسرائيل وطابعها، الذي ظهر على شكل انقسام عميق منذ تنصيب حكومة «معكسر المؤمنين» في الحكم أوّل من أمس، بالتزامن مع «يوم الغفران»، منظمة «روش يهودي»، إلى الشارع النابض بالحياة الليلية الذي يخاله المرء شارعاً في مدينة أوروبية صاخبة، ويعتبره مجتمع «المستعمرين البيض»، ماركةً مسجّلة باسمه. هكذا، وجد مركز «روش يهودي» ـــ وهو المنظّمة التي تستقي تعاليمها من الحاخام الأشكنازي الأوّل في فلسطين قبل النكبة، والأب الروحي للصهيونية الدينية، الراف يتسحاق كوك ـــ نفسه، مع مستوطنين من الأنوية التوراتية يقيم صلاة جماعية في الشارع المذكور لنيل الغفران لـ«شعب إسرائيل». نُظّمت الصلاة في ديزنغوف، خلافاً لقرار المحكمة «العليا»، وبلدية تل أبيب، اللتين لجأتا إلى القانون الذي يمنع الفصل بين الجنسين في الحيّز العام، فقرّرت المنظّمة الدينية إقامتها على رغم ذلك، فاصلة بين الجنسين بحاجز من الأعلام. لكن ما جرى، دفع ناشطي الحركة الاحتجاجية العلمانيين إلى تخريب الصلاة وتفريق المُصلّين، خصوصاً أن رئيس المركز، يسرائيل زاعيرا، الذي يشغل أيضاً المدير التنفيذي لشركة «بأموناه» العقارية، هو منظّم الصلاة، وكانت قد لاحقته، قبل أسبوع واحد فقط، عاصفة من الانتقادات بسبب مواقفه الدينية «المتطرّفة»، والصداقة التي تربطه بالراف يغئال ليفينشطاين، المعروف بمواقفه المتطرّفة ضد «مجتمع الميم». ومع ذلك، استضاف زاعيرا زميله المُعادي للمثليّين للصلاة في «عقر دار» الأخيرين، أولئك الذين يغسلون «خطايا» إسرائيل بأسلوب حداثي وليبرالي مقبول في العالم، عن طريق تقديم تل أبيب صديقة لـ«مجتمع الميم»، باستضافتها «مسيرة الفخر» السنوية.
وعلى رغم ما حصل، أكّد زاعيرا في مقابلة مع موقع صحيفة «واينت» التابع لـ«يديعوت أحرونوت»، استمرار منظّمته في إقامة الأنشطة اليهودية في تل أبيب، قائلاً: «وُلدت في تل أبيب، وكنتُ مستوطناً (في الضفة) لمدة 23 عاماً، وعدت لتل أبيب. إنها بيتي، وجيراني الأحبّاء الذين يشكّلون نحو 2500 شخص، من المتعطّشين للتقرّب من الدين اليهودي، يأتون للصلاة معنا في يوم الغفران. وهذا مؤشّر إلى أن هناك طلباً على اليهودية». وأضاف: «للأسف، التعصّب (الليبرالي) والعنف انتصرا، تماماً كما انتصر السيكاري (أوّل منظمة يهودية إرهابية أرّخها التاريخ ونشطت ضد الرومان)». وطبقاً لزاعيرا، فإن «ثمة ليبرالية مزيّفة وتعصّباً تحت غطاء الليبرالية»؛ إذ أوضح أن من يقف وراء تخريب الصلاة هو شيكما بيرسلير (عالمة الفيزياء الإسرائيلية، وإحدى مؤسّسات حركة الأعلام السوداء، والمبادرات لتنظيم الاحتجاجات ضد «الانقلاب القضائي») و«المنتدى العلماني»؛ اللذان، بحسبه، «يعتبران كل نشاط يهودي ديني تهديداً للحيّز العام، وكأن تل أبيب هي ملك لأبيهم، ودولة إسرائيل ملك لأمهم»! ووصف ما حدث بأنه «محاولة لإسكات منظّمات مثل روش يهودي، التي تعمل منذ سنوات طويلة بحب كبير من أجل الشعب اليهودي». ورداً على سؤال وجّهه مُعدّ المقابلة، حول ما إذا كان زاعيرا ينفّذ الأهداف التي تعلنها منظّمته والمتمثّلة بـ«تقريب قلوب اليهود»، من خلال خلق نزاعات في الشوارع كما حصل في ديزنغوف؟ قال: «أنت تقلب الأمر، وتجعل من الضحية مذنباً (...) المتعصّبون الليبراليون فرّقوا حدثاً أثار مشاعر شعب كامل. في العام الفائت، بلدية تل أبيب نفسها شاركت على صفحتها في موقع فيسبوك صورة من الحدث السابق. لكن الآن، لأننا في معركة انتخابية (على رئاسة البلديات) فهناك قتال بين رون خولدائي (رئيس بلدية تل أبيب)، و(المُرشّحة) أورنا باربائي، على أيّ منهما أكثر عدائية للدين (اليهودي)».
فرّق محتجّون علمانيون صلاة «يوم الغفران» في شارع ديزنغوف في تل أبيب


من جهته، ردّ خولدائي على هذه الاتهامات في مقابلة مع صحيفة «معاريف» واصفاً «روش يهودي» بأنها «تنظيم ميسياني (خلاصي) يهدف لفرض الدين على تل أبيب»، واعتبر أن هناك حكماً من المحكمة العليا يحظر الفصل بين الجنسين في الحيّز العام، وهو ما «تجاهلته المُنظمة»، التي اتهمها بمحاولة «السيطرة على الحيّز العام»، مشيراً إلى أن «50% من المديرين التنفيذيين في تل أبيب هم من النساء. وهذا الواقع لم يحصل من تلقاء نفسه، بل علينا التأكد من أنه سيستمرّ بهذه الطريقة. المدينة تحترم الجميع، ونحن نسمح بوضع الخيم في عيد العرش في الحيّز العام، ولكن أن يأتي أحدهم ويضع إصبعه في أعيننا كما حصل فسيكون الردّ كما حدث». ولفت إلى أنه سيعمد إلى تطبيق القانون مستقبلاً أيضاً، فحتى لو أتى (وزير الأمن القومي إيتمار) بن غفير للصلاة في تل أبيب فاصلاً بين الجنسين «سأرسل المراقبين للتأكّد من عدم الفصل بين الجنسين في الحيّز العام».
لكنّ «المعركة» لم تنتهِ هُنا، فقد هاجم عضو «الكنيست» من «الليكود»، بوعز بسموت، في مقابلة مع الصحيفة نفسها، المحتجّين الذين فرّقوا المُصلّين، معتبراً أن ما حدث هو «فضيحة»، مُهدّداً: «لن أسمح لهم بتحويل أوّل مدينة عبرية إلى مدينة معادية للسامية». واعتبر أنه «لم ينتهك أحد قرار المحكمة العليا، بل من انتهك القانون في الدولة اليهودية هم أولئك المحتجّون (ضدّ الحكومة) الذين يتظاهرون في السبت المُقدس ويقطعون الطرق». ورأى أن «إذلال اليهود الذين يصلّون في يوم الغفران في الدولة اليهودية هو أمر غير مسبوق ويجب ألا يتكرّر مرّة أخرى». أمّا عضو «الكنيست» من «الليكود» طالي غوتليب، فذهبت أبعد من زميلها، مُقرّة في مقابلة مع موقع «واينت» بأنها «تشعر بالاشمئزاز»، فـ«تلّ أبيب مدينة الكراهية والانقسام. وليست مدينة التعدّدية». وتساءلت: «منذ متى كانت الصلاة استفزازاً؟»، وتابعت: «المشاهد صعبة جداً، كنت أفكّر بالمشي في تل أبيب مع وضع شارة صفراء (قطعة قماش بلون أصفر على شكل نجمة داوود ميّزت اليهود عن غيرهم إبّان حكم الرايخ الثالث)». أمّا زميلها في الحزب نفسه، حانوخ ميلفيتسكي، فأقرّ بأنه «مكسور القلب»، مستدركاً «أشعر بالغضب الشديد». وأشار إلى أنه لا يفهم المحتجّين، «فما فعلوه لا يمكن وصفه إلا بأنه معادٍ للساميّة. ما حدث هو جريمة كراهية ضد اليهود فقط لأنهم يهود». فيما اعتبر عضو «الكنيست»، من «الصهيونية الدينية»، تسافي سكوت، أن ما حدث هو جزء من «مشكلة أكبر بكثير».
على المقلب الآخر، ردّ وزير الأمن الأسبق، موشي يعالون، على ميلفيتسكي قائلاً: «لم أسمعه هو أو رئيس الوزراء، يدينان تصريحات عضو الكنيست (من عوتسماه يهوديت) ليمور سون- هار هميلخ، وابنه (يائير نتنياهو) اللذين وصفا قاتل عائلة الدوابشة بأنه قدّيس مقدّس» (وكأن يعالون هذا ليس نفسه وزير الأمن الإسرائيلي الذي قُتل خلال ولايته آلاف الفلسطينيين!). ومع أن يعالون عبّر عن أسفه لما حصل، لفت إلى أنه «لا يفهم ما الذي تبحث عنه الأنوية التوراتية في تل أبيب»، مضيفاً: «إنني أفهم أنهم يستوطنون في المُدن المختلطة لتقوية وتعزيز الأحياء اليهودية مقابل السكان العرب (فلسطين الـ48). ولكن ليخرجوا من تل أبيب. لن يجدوا ما يبحثون عنه هُنا».