بالتزامن مع الذكرى العاشرة لتدشين الصين مبادرتها الضخمة، «الحزام والطريق»، التي امتدّت استثماراتها السخيّة إلى القارة الأفريقية (قدّرتها بكين أخيراً بنحو 100 مليار دولار، هي نحو 10% فقط من إجمالي استثمارات المبادرة التي تجاوزت تريليون دولار)، بادر اجتماع ضمّ عدداً من قادة قمّة «مجموعة العشرين»، بعنوان «الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالميَّين»، والذي عُقد للمرّة الأولى في القمّة السابقة في 2022، إلى توقيع مذكّرة تفاهم لإقامة «ممرّ الهند - الشرق الأوسط - أوروبا» الاقتصادي (IMEC) الذي من المقرَّر أن يَشمل مدّ خطوط ربط حديدية وخطوط نقل بحري وأنابيب طاقة، بهدف تعزيز قدرات البنية التحتية القائمة وحركة التجارة والخدمات بين الهند والإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وأوروبا، في ما عُدّ استهدافاً مباشراً للصين ومشروعها.أمّا أفريقيّاً، فقد عزّز هذا التنافس موقع القارّة، بفعل ما ستتلقّاه دولها من استثمارات، غير أن قائمة الموانئ التي سيمتدّ عبرها الممرّ (من موندرا وكاندلا وجواهر لال نهرو في الهند، مروراً بجبل علي وموانئ أخرى في الإمارات والدمام في السعودية، ثم حيفا، انتهاءً بميناء بيريوس في اليونان)، خلت، إلى الآن، من ذكْر موانئ على البحر الأحمر، سواء عبر الأردن الذي وقّع على المذكرة، أو مصر التي أشارت تقارير إلى دراسة الدول المعنية مسألة شمولها في المشروع «مستقبلاً»، مع ما يعنيه ذلك من تراجعٍ لأهميّة شرق أفريقيا والبحر الأحمر في التجارة العالمية بعد تشغيل «الممر الهندي»، أو تكريس النفوذ الصيني «الحصري» في أفريقيا، سواء عبر مبادرة «الحزام والطريق»، أو من بوابة مجموعة «بريكس».

«الحزام والطريق» في أفريقيا: تراجعات العقد الجديد؟
حلّت هذا الشهر مناسبة مرور عقد كامل على إطلاق مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، التي استهدفت بدايةً دول آسيا الوسطى، وامتدّت لتشمل 148 دولة في مختلف قارّات العالم، من بينها الدول الأفريقية جميعها تقريباً، وآخرها انخراط الجزائر في المشروع. لكن الصين تدخل عقدها الجديد بخطوات متثاقلة لجهة مساعدة دول القارّة الأفريقية اقتصاديّاً، بعدما تَراجَع - مثلاً - حجم القروض السيادية التي قدّمتها بكين، في عام 2022، لهذه الدول إلى حدود المليار دولار، في ما يمثّل مؤشّراً خطيراً، لا سيما أن الانخفاض هو الثاني على التوالي بعد عام 2021، حين بلغ حجم قروض الصين لأفريقيا 1.22 مليار دولار. ويعكس المسار المتقدّم، توجّهاً صينيّاً متحفّظاً، هو أقرب إلى مراجعة سياسات قروض الدولة الآسيوية للقارة الأفريقية، والتي كانت قد بلغت ذروتها في عام 2016 (28.4 مليار دولار).
وفي السياق نفسه، تبدو مؤشّرات «الحزام والطريق» في أفريقيا إلى تراجع، في ظلّ وجود تحوّلات لافتة في سياسات الإقراض الصينية المخصّصة للقارّة، ولجوء بكين إلى السياسات «الليبرالية» التي تهيمن على غالبية القروض الأفريقية. ويتّضح ذلك في توقيع «بنك التنمية الصيني»، قبيل نهاية الشهر الجاري، قرضاً لمصلحة «بنك التصدير والاستيراد الأفريقي» بقيمة 400 مليون دولار (أو نحو نصف قيمة القروض الصينية لأفريقيا في العام الماضي)، على أن يكون طويل الأجل، ويُكرَّس لدعم تمويل الشركات الصغيرة والمتوسّطة في أفريقيا.

أوروبا والممرّ الأفريقي: عودة من الباب الخلفي
بدأت ملامح «الممرّ الأفريقي» Trans-African Corridor، الذي أعلن الاتحاد الأوروبي عزمه على تمويله في قمّة «G20» الأخيرة في نيودلهي، تتّضح في ظلّ شموله أبعاداً أخرى، مِثل تأمين سلاسل الإمداد الإقليمية، وتيسير حركة التجارة، وتعزيز الوحدة الاقتصادية بين الدول الأفريقية الثلاث (جمهورية الكونغو الديموقراطية، وأنغولا، وزامبيا التي توجّه رئيسها، بعد منتصف الجاري، إلى بكين في زيارة دولية). على أن واشنطن ليست بعيدة من المشروع «الأوروبي»، الذي وصفه الرئيس الأميركي، جو بايدن، بـ«الاستثمار الإقليمي المغيّر للعبة»؛ إذ أوضح بيان صادر عن البيت الأبيض (9 الجاري)، أن المشروع يتمّ في الأساس عبر شراكة أميركية مع الاتحاد الأوروبي «لترقية البنية التحتية المهمّة عبر أفريقيا جنوب الصحراء»، وأن هذه الشراكة ستجمع بين الموارد المالية (الأوروبية) والمعرفة (الأميركية) للإسراع بتنمية «ممرّ لوبيتو»، عبر ضخّ استثمارات في الاستخدام الرقمي وسلاسل القيمة الزراعية. ووفق البيان، فإن الخطوة التالية مباشرةً تتمثّل في دعم واشنطن وبروكسل، حكومات الدول الأفريقية الثلاث المعنيّة، في بدء مرحلة ما قبل دراسات الجدوى، انطلاقاً من الدعم المبدئي لمدّ خط سكك الحديد بطول 1300 كيلومتر من ميناء لوبيتو في أنغولا، إلى إقليم كاتنجا في جمهورية الكونغو الديموقراطية، مروراً بـ«حزام النحاس» في زامبيا الحبيسة، للمساعدة في تيسير عمليات تصدير الكوبالت والنحاس إلى دول الاتحاد الأوروبي، الذي أعلن بدوره، في أكثر من مناسبة، أهميّة هاتَين المادتَين في «الانتقال الطاقوي» إلى اقتصاد الكربون المنخفض.
تدخل الصين عقد «الحزام والطريق» الثاني بخطوات متثاقلة لجهة مساعدة دول القارّة الأفريقية اقتصاديّاً


ويبدو أن مشروع «الممرّ الأفريقي» نال دفعات على الأرض بالفعل، وأن إعلانه كان محصّلة لجهد بُذل بالفعل، ما يشير إلى جدّيته، ووسط توقّعات ببدء العمل فيه في وقت قريب. وسبق خطوة الإعلان، تشكُّل «كونسرتيوم» حمل اسم «جمعية الكونغو لسكك الحديد الوطنية» (SNCC) كشراكة بين القطاعَين الخاص والعام في الإقليم، إذ يشمل «الكونسرتيوم» شركات «ترافيغورا» (الرائدة عالميّاً في تجارة السلع)، و«موتا-إنغيل» (Mota-Engil Engenharia e Construcao Africa)، و«Vecturis SA»، وهي مشغّل خطوط سكك الحديد، مع دخول حكومات الدول الثلاث بمساهمات في المشروع. كما أعلن «الكونسرتيوم»، قبيل نهاية الجاري، عزمه استثمار 455 مليون دولار في أنغولا، و100 مليون دولار في الكونغو ضمن خططه الأولية.

«الممرّ الهندي» وأفريقيا: خطر تراجع أهمية القرن الأفريقي والبحر الأحمر؟
تركَّز الجدل الدائر حول إقامة «ممرّ هندي - شرق أوسطي - أوروبي»، على تأثير الممرّ في مشروعات «الحزام والطريق» الصينية، والتي تمتدّ بدورها في مسارات متعدّدة في قارّات العالم، وتصل إلى قلب جنوب أوروبا في اليونان، وربّما إيطاليا لاحقاً، في تقاطع مع «الممرّ الهندي». لكن ما يُعرف بالقسم الشرقي من الممرّ (من الهند إلى ميناء حيفا شرق البحر المتوسط)، أثار مخاوف حقيقية من آثاره السلبية - حال بدء العمل فيه وبكامل طاقته - على حركة التجارة المارّة في سواحل القرن الأفريقي والبحر الأحمر، لا سيما أن «الممرّ الهندي» سيكون وسيلة نقل سريعة جداً مقارنةً بطرق الملاحة المارّة في القارّة الأفريقية، ما يُتوقّع معه جذبه لاحقاً حركةَ تجارة موسّعة من دول غير واقعة على مساراته (مثل دول في جنوب شرق آسيا).
وبغضّ النظر عن حسابات المنافسة بين «الحزام والطريق» و«الممرّ الهندي»، أو كون الأخير جاء ردّاً على الأول بهدف «موازنة» مصالح الدول الموقّعة عليه، فإن أفريقيا ستكون، بلا شكّ، المتضرّر الأكبر من المشروع، سواء بصورة مباشرة في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، أم بصورة غير مباشرة في الدول الظهيرة للإقليم. ويُتوقّع، توازياً، أن تعوّض الهند خسائرها الاقتصادية في السنوات الأخيرة عبر ما سيوفره الممرّ من تكاليف محسومة من حصص الدول الأفريقية. وبينما تدفع الولايات المتحدة في اتّجاه تفعيل الممرّ، فهي بادرت، في الوقت نفسه، إلى الإعلان عن مبادرة لتعزيز قدرة «البنك الدولي» الإقراضية بحدود 25 مليار دولار مخصّصة للدول المتوسّطة والمنخفضة الدخل (وغالبيتها دول أفريقية)، في مبادرة من شأنها أن تشكّل، في حال تحقُّقها قبل نهاية ولاية بايدن، ضربةً موجعة للنفوذ الصيني في القارّة.

خلاصة
حضرت القارّة الأفريقية في خضمّ الجدل الدائر حول حزمة الممرّات القائمة والمرتقبة، من دون أن يمسّ هذا الجدل دورها، وتأثيره على مجمل سياسات القوى الكبرى والمتوسطة المنخرطة في تنافس بالغ الضراوة على موارد القارّة، وتعميق أدوات استغلالها عبر شراكات (عامّة وخاصّة) باتت متجاوزة على نحو فارق لرؤى الدول الأفريقية إلى مشروعاتها التنموية، والتي أصبحت مرتهنة تماماً بديناميات عمل هذه الممرّات وما ستقود إليه من تأثيرات بنيوية خطيرة تؤشّر إلى نهب مؤسّساتي غير مسبوق، ستصاحبه تغيّرات سياسية حال استمراره على الوتيرة الحالية.