لم يكن ناقصاً عند حديث الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن «المأساة الإنسانية الرهيبة» التي يواجهها المستوطنون الصهاينة من جراء عملية «طوفان القدس» البطولية، سوى أن يذرف بعض الدموع، ليؤكّد للمرة الألف صلة الرحم التي تجمع بلاده، المستوطنة الكبرى، بالمستوطنة الصغرى، إسرائيل. حرص بايدن، في تصريحه عن الملحمة الدائرة على أرض فلسطين، على التذكير بأن الولايات المتحدة هي الدولة الأولى التي اعترفت بإسرائيل بعد 11 دقيقة من «تأسيسها»، وأنها ستقف إلى جانبها كما فعلت آنذاك. وهو حذّر من أن التطورات الحالية «ليست اللحظة المناسبة لأي جهة معادية لإسرائيل لاستغلال هذه الهجمات لتحقيق مكاسب، فالعالم يراقب». طبعاً، وعند مراجعة التصريحات والتعليقات الصادرة من قبل المسؤولين السياسيين الدوليين ووزارات الخارجية المختلفة، يتّضح أن «العالم» المقصود هو الغرب. الغرب الجماعي، دولاً ومنظمات، كالاتحاد الأوروبي مثلاً، دان المقاومة الفلسطينية وأعلن تأييده لإسرائيل. أمّا مواقف بقية دول العالم، فتراوحت بين الدعوة إلى وقف «العنف» و«ضبط النفس»، كما في حال روسيا والصين وآخرين، أو تحميل مسؤولية ما يجري للاحتلال الإسرائيلي، كما فعلت بعض الدول الخليجية.مرة أخرى، بعد الحرب في أوكرانيا، يظهر مدى تراجع قدرة الولايات المتحدة على إلزام الآخرين بأجندتها الاستراتيجية ومواقفها، مع ما يترتّب على ذلك من تداعيات سياسية وميدانية على الصراعات المحتدمة، وتلك المحتمَلة، في أكثر من ساحة على امتداد المعمورة. لا شكّ في صدق عواطف رئيس الإمبرطورية المنحدرة تجاه الكيان، وهو الذي أعلن في 14 تموز 2022، خلال زيارته له في إطار جولة إقليمية كان يقوم بها، أنه «صهيوني، ولا يتعيّن على المرء أن يكون يهودياً لكي يكون صهيونياً». والأمر نفسه ينطبق على أقطاب إدارته، كوزير خارجيته أنتوني بلينكن، اليهودي والصهيوني. ولكن السؤال اليوم هو حول ما تستطيع الولايات المتحدة فعله لمساندة الكيان الغاصب حيال التحدي الكبير الذي يفرض عليها، والمرشح للتعاظم في حال اتّساع نطاق المعركة، وانفجار برميل البارود الإقليمي، وخاصة إذا أخذ في الحسبان تناقض مثل هذا السيناريو مع الأجندة الاستراتيجية الدولية والإقليمية لواشنطن.
رغبة الإدارة الأميركية في التركيز على أولويتَي أجندتها، أي حربها المصيرية، هي وبقية معسكرها الغربي، ضدّ روسيا بالوكالة في أوكرانيا من جهة، ومجابهتها الاستراتيجية، الشاملة والمتصاعدة، مع الصين، من جهة أخرى، دفعتها إلى رفع شعار «تخفيض التوتر» كعنوان لسياستها في الشرق الأوسط. و«تخفيض التوتر» عملياً يعني عدم التورط في مساعٍ لحل أزمات «مستعصية ومعقّدة»، والعمل بدلاً من ذلك على محاولة «إدارتها»، واعتماد معالجات موضعية لمنع تأجّجها وتحوّلها إلى حروب دامية. الترجمة الفعلية لهذه السياسة في فلسطين هي السماح لإسرائيل بالاستمرار في التطهير العرقي «على نار هادئة»، وفي توسيع الاستيطان والضمّ، مع الحرص على عدم انهيار السلطة الفلسطينية وتقديم المساعدات المادية لها، وحضّ الآخرين على القيام بالأمر عينه، وعدم معارضة وصول «مساعدات» إلى غزة. بكلام آخر، إعطاء «مسكنات» للفلسطينيين، وإتاحة المجال لإسرائيل لاستكمال مشروع التطهير العرقي والتهويد الكامل.
مشاركة واشنطن في حروب إسرائيل الدامية والمدمرة ستفاقم من الكراهية لها بين شعوب المنطقة


اعتقد أقطاب هذه الإدارة، وحلفاؤهم من كل حدب وصوب، لغطرستهم المفرطة، والتي غالباً ما تكون معطوفة على غباء مستحكم بأذهان أصحابها، بإمكانية دوام مثل هذه الأوضاع، وخاصة في ظلّ تنامي قدرات وخبرات قوى المقاومة، واشتداد عود محورها في الإقليم، رغماً عن كل الضغوط والمصاعب. وعندما تعاكس المستجدات مخطّطات من يعتقدون أنهم ما زالوا في موقع التحكم بمصائر الشعوب وتطلّعاتها، يسارعون، كما فعل بايدن، إلى العودة إلى منطق القوة الفجة، عبر الإعلان عن مساعدات عسكرية لإسرائيل قد تصل قيمتها إلى 8 مليارات دولار، وإلى إعطاء الضوء الأخضر لحرب ضد غزة. ربما يعتقدون أن الضغوط على بعض الأطراف العربية تكفي لكي تقوم هذه الأخيرة بحمل المقاومة الفلسطينية على التراجع، أو للحؤول دون تدخل قوى المقاومة الأخرى في الدخول في المواجهة في حال استعارها. الحقيقة هي أن المنطقة على فوهة بركان، وأن انفجاره سينسف جميع جهود واشنطن لـ«تخفيض التوتر» ويضعها أمام حرب جديدة هي لا تحتاج إليها في ظل مواجهاتها الحالية على الصعيد الدولي.
ما ينطبق على المستوى الدولي، بالنسبة إلى جدول الأعمال الأميركي، ينطبق أيضاً على المستوى الإقليمي. المساعي المحمومة التي تبذلها واشنطن للتوصل إلى تطبيع رسمي سعودي - إسرائيلي ستتعثّر، على أقل تقدير، في ظلّ المعركة الراهنة في غزة، فضلاً عن احتمال تحوّلها إلى حرب إقليمية. التصريح السعودي بشأن معركة «طوفان القدس»، رغم ضعفه الشديد وانخفاض سقفه السياسي، يلقي باللوم على الاحتلال الإسرائيلي عند تفسيره للتطورات. سيكون من الصعب أن تتواصل الاندفاعة التطبيعية التي شهدناها قبل بداية المعركة الحالية، في السياق الراهن. ينبغي الالتفات إلى أن ما حفّز الولايات المتحدة على مثل هذه المساعي المحمومة، إضافة إلى إرادتها في إعادة تنظيم العلاقات بين حلفائها في الإقليم، وتعزيز نفوذها المنحسر فيه، و«تحقيق إنجاز سياسي» يُحسب لها في الداخل الأميركي وفقاً لاعتقادها، هو الحد من تنامي النفوذ الصيني الذي ظهر بوضوح خلال الشهور الماضية، من زيارة الرئيس شي جين بينغ للسعودية والقمم الثلاث التي عقدت لأجله، ورعاية بكين للمصالحة السعودية - الإيرانية. مشاركة واشنطن في حروب إسرائيل الدامية والمدمرة، عبر الدعم العسكري والتغطية السياسية، ستفاقم من الكراهية لها بين شعوب المنطقة ومن إحراج أصدقائها على الانسياق خلف مشاريعها ومخطّطاتها.
النقطة الثالثة مرتبطة بما ذكر. ماذا لو تقدمت الصين، و/أو روسيا، مع استعار المعركة الجارية، وربما اتساعها، باقتراحات لوقف المعارك العسكرية تلحظ المطالب الفلسطينية؟ «التسلل» الصيني في منطقة اعتبرتها الولايات المتحدة في ما مضى «فضاءَ مصالح وطنية حيوية أميركية» حصرياً، لا يتمّ فقط من خلال عقود اقتصادية أو تجارية، بل أيضاً عبر أداء بكين دور الوسيط السياسي لحل الأزمات المستعصية. هي تقدّم نفسها اليوم على أنها «صانعة سلام»، وترى في ذلك رافعة لدور سياسي أكبر في إقليمنا وفي أقاليم أخرى من العالم، بينما تظهر واشنطن على حقيقتها، أي كونها قوة عدوان وتدمير. لكن، وعلى الرغم من كل ما سلف، تهرع الولايات المتحدة لتأمين المساندة العسكرية والسياسية الكاملة لإسرائيل، وستكون لهذا تداعيات بالغة السلبية على سياستها ومصالحها وأولويات جدول أعمالها.
نقطة أخيرة لا بد من لحظها، وهي أن مثل هذا الدعم، إذا لم يصل إلى مستوى التورّط الأميركي المباشر في الحرب، وهو أمر مستبعد، لن يسمح لإسرائيل بحسم المعركة لمصلحتها. من يشكّ في ذلك، ما عليه سوى الانتظار.