تبدو تجلّيات الانقسام الأوروبي، الذي كان متركّزاً حتى الأمس القريب حول أزمة أوكرانيا، متجسّداً في تفاوت مستوى «لهفة» البلدان الأوروبية لنجدة حليفها في كييف، وللذهاب بعيداً في مقاطعة موسكو، أكثر وضوحاً إزاء المشهد الفلسطيني المتفجّر، وتحديداً بعد عمليّة «طوفان الأقصى»، في ما يعكس أزمة جدّية لدى الاتحاد الأوروبي في إدارة تفاعلاته مع الأزمات الدولية. وأشارت إلى ذلك مصادر أوروبية مسؤولة، لوكالة الصحافة الفرنسية، حين أكّدت أن قمّة قادة دول التكتّل، أمس، جاءت بفعل «الحاجة إلى ترتيب الأمور»، في تلميح إلى التجاذبات المتواصلة بين الدول الأعضاء حول عدد من القضايا، والتراشق الكلامي المستمرّ بين مسؤولي التكتُّل. وإذ لا يبدو مستغرباً إجماع بلدان الاتحاد على إدانة حركة «حماس»، وتأييدها إسرائيل، في موازاة دعوتها الحركة إلى «إفراج فوري وغير مشروط» عن الأسرى لديها، فإن ما يُستهجَن هو مسارعة المفوّض المجري لشؤون التوسع والجوار، أوليفر فارهلي، إلى الإعلان عن وقف الاتحاد الأوروبي تقديم المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين، في الساعات الأولى التي أعقبت عمليّة المقاومة في «غلاف غزة». ولاقى إعلان فارهلي، صاحب «السوابق» في كيل مواقف معادية للفلسطينيين تحت قبّة مؤسّسات الاتحاد الأوروبي، ومنها قراره العام الماضي تجميد ما قيمته 200 مليون يورو من الدعم الإنمائي والإغاثي المخصّص لهم تحت ذرائع متصلة بـ»معاداة السامية» - وإنْ جاء منسجماً مع موقف حكومة بلاده، المجر، التي تتبنّى رؤية متشدّدة حيال الفلسطينيين -، انتقادات واسعة من قِبَل مسؤولين أوروبيين آخرين، ولا سيما بعدما أُشيع عن عدم تنسيق كلام «المفوّض» مع المفوّضية الأوروبية في بروكسل.وعلى رأس المنتقدين، كان الممثّل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، جوزيب بوريل، الذي سبق أن شغل منصب وزير خارجية إسبانيا، والمعروف عنه مواقفه الداعمة لحقوق الفلسطينيين، والتي كثيراً ما كانت تحظى بإدانة إسرائيل، حتى إن الأمر وصل إلى حدّ تسجيل الأخيرة اعتراضاً على تعيينه في منصبه الحالي الذي تولّاه في عام 2019. وعمد بوريل إلى «التبرّؤ» من مواقف هارفلي، مكتفياً بالتأكيد أن بروكسل باشرت فعلاً بالتدقيق في المساعدات الإنمائية المخصّصة للفلسطينيين، بدعوى «الحرص» على عدم وصولها إلى أيدي حركة «حماس»، المصنّفة على لوائح «الإرهاب» الأوروبية، مستبعداً في الوقت نفسه إمكانية وصول حركة المقاومة الفلسطينية إلى تلك المساعدات. كذلك، أسهب بوريل في «تقريع» زميله، واصفاً أيّ توجه لوقف الدعم الإنساني المقدّم عبر السلطة الفلسطينية بـ»الأخرق»، داعياً إلى التمييز بين السلطة و»حماس»، ومحذّراً من أن وقف الدعم المشار إليه يرقى إلى مصاف «العقاب الجماعي» في حقّ الشعب الفلسطيني، وهو يناقض المصالح الأوروبية، ويقوّض ما سمّاه «السلام» بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وكرّر بوريل تصريحاته تلك، خلال مشاركته في اجتماع استثنائي لوزراء خارجية الاتحاد ونظرائهم في «مجلس التعاون الخليجي»، عُقد قبل أيام في العاصمة العُمانية مسقط، وخُصّص للبحث في التطوّرات في الشرق الأوسط، حين قال إن بعض الإجراءات التي تقوم بها إسرائيل، مِن مِثل قطع المياه والكهرباء، والحصار الغذائي على غزة، تتناقض مع أحكام «القانون الدولي»، داعياً إلى زيادة المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، لمساعدة مَن وصفهم بـ»ضحايا هذه المأساة». ووسط أنباء عن معارضة بعض البلدان الأوروبية، ومن بينها المجر والنمسا، مواصلة الدعم الإنساني المقدّم إلى الشعب الفلسطيني، أكّد بوريل، عقب مباحثات مسقط، أنه سيطلب من مجلس الاتحاد الأوروبي زيادة قيمة المساعدات المقرّرة لهذا الغرض بقيمة 28 مليون دولار. وفي اتّجاه تثبيت الإجراءات «التصحيحية» هذه، أعلنت رئيسة المفوّضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، بدورها، زيادة قيمة الدعم الأوروبي للفلسطينيين ثلاث مرات، ليصل إلى 75 مليون يورو.
ما سبق، أوحى بانقسام داخل مؤسّسات الاتحاد الأوروبي على خلفيّة التعاطي السياسي والإعلامي حيال العدوان الإسرائيلي على غزة، وهو بالضبط ما خيّم على اجتماع طارئ، عبر تقنية الفيديو، عقده قادة بلدان الاتحاد الأوروبي، أمس، بهدف تدارس الوضع في القطاع، واحتمال تدحرجه نحو حرب إقليمية على مستوى الشرق الأوسط. وعلى ما يبدو، فإن الخلاف بين المسؤولين الأوروبيين ليس محصوراً بمسألة الدعم الإنساني لغزة، بل يتعدّاه إلى الموقف السياسي من إجراءات إسرائيل داخل القطاع. وكما بات معلوماً، فإن «الحرب الكلامية» بين بوريل ونظرائه في التكتّل، لم تقتصر على سجاله مع فارهلي، إنّما تجاوزته إلى سجال مشابه مع فون دير لايين، التي وُجهت إليها انتقادات واسعة على خلفية زيارتها للأراضي المحتلّة، ومدافعتها لدى لقائها المسؤولين الإسرائيليين، ومن بينهم رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عن دعمها لما قالت إنه «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وذلك من دون حضّ الأخيرة على مراعاة «موجبات القانون الدولي والإنساني»، في حملة التصعيد التي تقودها في غزة. وهو الأمر الذي أخذه بوريل بصورة غير مباشرة على زميلته، عبر التشديد في أكثر من مناسبة على أهميّة مراعاة هواجس المجتمع الدولي المشار إليها من جانب الجيش الإسرائيلي.
تسود هواجس لدى المسؤولين الأوروبيين حول الانعكاسات المحتملة لأدائهم الإعلامي والسياسي في إدارة التعامل مع الحرب على غزة


اللافت أن دائرة الانتقادات لزيارة فون دير لايين للأراضي المحتلّة، وما صاحبها من مواقف صادرة عنها، اتّسعت خلال الأيام الماضية، من قِبَل منظّمات حقوقية، اضطرّت لتعليق عمليّاتها في غزة بسبب الحرب، كـ»أوكسفام»، التي رأت أن الوقت «ليس مناسباً للرسائل المتناقضة»، مضيفة أن «ما نحن بحاجة إليه هو قيادة (أوروبية) معنوية حاسمة تركّز على السلام». وانسحب الموقف نفسه على برلمانيين أوروبيين، على غرار النائبة الأوروبية الفرنسية، ناتالي لوازو، التي أثارت مسألة صلاحية المفوّضية الأوروبية، ممثلةً برئيستها فون دير لايين، في مجال السياسة الخارجية، قائلة: «لا أفهم ما علاقة رئيسة المفوّضية الأوروبية بالسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي التي هي ليست مكلّفة بها». ولعل «العارض» الأبرز لهذا «الشرخ» الأوروبي، والذي بات معلَناً إلى حدّ كبير، جاء على لسان رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، حين أعرب عن امتعاضه من أداء فون دير لايين في السياسة الخارجية على خلفية مواقفها من عدد من القضايا الدولية، كحرب أوكرانيا، والتطوّرات في غزة.
وتجدر الإشارة إلى أن قادة الاتحاد الأوروبي سبق أن أصدروا، خلال الأيام الأولى من العدوان على غزة، على وقع تباين في الآراء، إعلاناً مشتركاً، أشاروا فيه إلى «حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي والإنساني»، ضدّ ما وصفوه بـ»الهجمات العنيفة والعشوائية» التي تقوم بها «حماس»، إضافة إلى إبدائهم الاستعداد لـ»مواصلة دعم المدنيين الذين هم في أمسّ الحاجة إليه» في غزة. وأمّا اجتماع أمس، فلا يَظهر أنه سيسفر عن انفراجة على صعيد لجم الانقسامات بين الدول الأعضاء في ما يخصّ إدارة السياسة الخارجية للتكتُّل، والتي أُضيف إلى محفّزاتها أخيراً، إلى جانب المستجدات الفلسطينية، «اتفاق الهجرة» الموقّع مع الحكومة التونسية. وفي الكواليس، تسود هواجس لدى المسؤولين الأوروبيين حول الانعكاسات المحتملة لأدائهم الإعلامي والسياسي في إدارة التعامل مع الحرب على غزة، سواء لناحية تبعاتها على علاقات بروكسل مع «بلدان الجنوب العالمي»، أو لناحية انعكاساتها المحتملة على أيّ مساع دبلوماسية مستقبلية لوقف الصراع في أوكرانيا.